كلما حاولت أن أحلم بوطن لجميع أبنائه , تتساوى فيه الفرص , و تتضافر فيه الجهود من أجل البناء, و تتعايش فيه كل الشرائح بسلام و طمأنينة ,كلما حلمت بهذا الوطن القوي المتماسك ,أفيق على واقع آخر يتمدد و ينتشر مثل السرطان المزمن في جسم مجتمعنا , لا يستطيع الفكاك منه , وكأن قدره أن يستسلم له إلى الأبد.إننا لا نملك مقومات الدولة و لا نتصف بما تتصف به الشعوب ذات المصير الواحد و الهوية المشتركة.إن أقرب ما يمكن أن نوصف به هو أننا جماعات متطرفة تخضع كل واحدة منها لمجموعة من المستغلين انتهزوا فرصة غبائها و قصر فهمها فتفننوا في تضليلها وباعوها بأبخس الأثمان. لقد حاول جيل المؤسسين لمشروع الدولة الموريتانية التعامل ببعض الواقعية مع طبيعة المجتمع القبلي , واضعين في الحسبان هشاشة الكيان الجديد و صعوبة استيعابه على عقول مجتمع عشائري حديث عهد بالصراعات القبلية ,لكن تلك الواقعية لم تخل من حزم و إصرار على بناء الدولة و فرض احترامها على الجميع, و تحويل الولاء لها بدلا من الولاء الضيق للقبائل و العشائر. لكن , هل تحقق لهم ما أرادوا ؟ لا شك أن طبيعة المسار السياسي و تقلباته الذي عرفته البلاد منذ الاستقلال إلى اليوم ساهم في زعزعة الإرادة التي بدأ بها المؤسسون فحلت محلها على مستويات متفاوتة و في مراحل مختلفة إرادة أخرى انتهجت نهجا أعادنا إلى المربع الأول , بل ربما تمادى عن قصد في الرجوع بالعقليات إلى الوراء فأعاد ترسيخ القبلية عن طريق تشجيع الزعامات التقليدية, بهدف الاعتماد عليها لفرض ضمان الولاء للحكام ,لكن المشكلة التي ورط فيها أصحاب هذا التوجه أنفسهم هي تعدد الزعامات و صعوبة إرضائها في نفس الوقت نتيجة الأطماع الفردية و اختلاف المصالح المبنية على امتيازات شخصية و تسهيلات لأفراد من هذه الجماعة أو تلك .لقد تحولت الدولة إلى كعكة تتقاسمها الزعامات القبلية في شراهة و تتصارع في سبيل الحظوة عند الحاكم , مع عدم الاختلاف في التوجه السياسي المتسم بالموالاة غالبا .لاشك أن المشكلة ليست دائما في وجود خصوم للنظام بل المشكلة الأكبر هي و جود شركاء سياسيين متخاصمين و متخاصمين في ماذا ؟ تصور أن يكون الخصام حول من يصافح رئيس الجمهورية أولا ومن يحظى بلقائه لفترة أطول! حين يصبح هذا هو الواقع و يحدث العراك بالأيدي أمام الملأ بين زعماء القبائل و يفتخر كل بقبيلته و تاريخها و أمجادها و عدتها و عتادها , حين يحدث كل ذلك أمام من يمثل أعلى هرم في سلطة الدولة , يصبح الحديث عن وجود دولة مجرد كذب و ادعاء لا أساس له و لا منطق يدعمه.لقد أصبحت القبائل أقرب إلى جماعات تشبه في خطورتها تلك الجماعات المتطرفة التي تهدد مصالح الدول و تهدد تنميتها و استقرارها و تصبح محاربة من يتخندقون وراء الدعوة القبلية أولى من محاربة التطرف و الإرهاب. في ظل هذا الواقع المرير لا أحد يتوقع مطلبا وطنيا و لا تحقيقا لمصلحة عمومية و لا نهجا تقدميا,و ما دام استحضار أمجاد القبيلة و محاسبة الدولة على تهميشها يشغل بال السياسيين فلا سبيل إلى بناء وطن للجميع.