ما إن تلقف الإعلام نبأ إضرام عناصر من منظمة "إيرا" للنار في بعض المتون الفقهية المالكية حتى عم إستياء كبير في أوساط الموريتانيين على اختلاف مستوياتهم وأجناسهم وأعمارهم لأن الصفعة كانت مدوية ولأن الوتر هذه المرة حساس جدا حيث يتعلق الأمر باشعال متون مركزية ظل يعتمد عليها التعليم الديني منذ زمن طويل لدرجة أن تعاليمها امتزجت بالصيغ التعبيرية الحسانية خاصة، وأصبحت تستهلك في عداد الدارج من الكلام يوميا وحتى على أكثر الألسن عامية.
و هذه للأمانة ليست صدمة من هذا القبيل يتعرض لها الوعي الجمعي الموريتاني- مع اعترافنا باختلاف مستويات الصدمة- حيث كان من وقت لآخر تمر عليه تصريحات وتصرفات من هنا وهناك تسائل الدين و تنتقده تارة، وتضع علماءه على المحك تارة أخرى، و في أحايين كثيرة تتهجم عليهم و تستجديهم توضيح مواقفهم من قضايا حداثية أو مستجدة على الأقل. كما شهدت بعض الفترات إحراقا لصور العلماء وتعبئة علنية ضدهم تستبطن القدح والاغتياب والتنابز بالألقاب... و قد أشرفت السلطة الحاكمة ذات مرة على المجاهرة بمناصبة العداء للعلماء وأخذت في تشويه الثقافة الدينية من خلال خطابات أعلى هرم فيها فضلا عن أنها سجنت العلماء وأذاقتهم صنوف المضايقة والقهر والإهانة... وحتى النظام القائم الآن لم تخلو خطاباته من لغة قدحية اتجاه العلماء ومن يفترض أنهم حملة الدين بل افتى مرارا وعن طريق قنواته المختلفة بحرمة الصلاة وراء أئمة معروفين ورماهم بالكذب والعمالة والتحريض على الفتنة...
حدث كل ذلك ولم يقابل بردة فعل شعبية كالتي نشهدها هذه الأيام على خلفية إحراق المتون المذكورة وهذا مايشرع لنا أن نتساءل عن العناصر الجديدة التي هيأت واقعا كهذا؟.
إن مركزية الدين في الوعي الجمعي لاتزال هي هي إن لم تكن تناقصت بفعل الانفتاح وانتشار التعليم وخاصة الأكاديمي منه، وبفعل تطور الوعي باتجاه ضرورة الإلمام بالنظريات والفلسفات الحداثية، إلى غير ذلك مما يدفع إلى التملص من صفاقة التدين الصارمة. وهذه الديناميكية حتمية تؤديها وتشهد لها فلسفة الدين نفسه في تفسيره لحركية التاريخ حيث يراه يتقدم باتجاه الأسوأ (آخر الزمن) الذي سيفضي إلى الضفة الأخرى من الحياة بعد أن تملأ الأرض جورا ويقل الاهتمام بالدين وتعاليمه. لكننا ورغم كل ذلك سنفترض ما بدأنا منه وهو أن مركزية الدين في الوعي الجمعي لا تزال هي هي. فماذا غيرها طرأ إذن ليترجم حالة جماهيرية كهذه مع العلم أن التيار السياسي الديني المعترف به والذي ينتظم في "تواصل" لم يشارك في هذه التعبئة ولم يشارك فيها أنصاره؟.
فعلا بلادنا تمر بظرف سياسي خاص تسوده استقطابية حادة قوامها المساندة والمعارضة وخطابات متشنجة لا تقبل بالحلول الوسط حتى كتابة هذه الأحرف. وفي هذا السياق تم التصرف الذي أقدمت عليه منظمة "إيرا" و ما إن أسدل الليل أستاره حتى بدأت ردود الفعل تترى من عشرات الغاضبين يتوجهون إلى القصر الرئاسي ويخرج إليهم رئيس الجمهورية ويتعهد لهم بمعاقبة المجرمين! ثم تتسابق الأحزاب إلى إدانة الفعل واستنكاره من مختلف أقطاب المشهد وبين عشية وضحاها يتحول صدى الحادثة إلى حالة جماهيرية في مناطق مختلفة ومتعددة من موريتانيا لتتدارك التنظيمات التي لم تصدر بيانات سريعا وتساهم في الجوقة!.
لن أميل إلى تفسير ما حدث برأي شائع يشي بأن بيرام متعاون مع النظام وأن بينهما صفقة بموجبها تمنح إيرا لعزيز ورقة كهذه ليس لأن هذا الرأي لا يحدد العائد على بيرام ومنظمة إيرا من هذه الصفقة، بل لأني أعرف الاستاذ بيرام جيد وأعرف أهم رفاقه الأساسيين وأستبعد منهم إلى حد بعيد الإقدام على خطوة كهذه. ويبدو لي أكثر منطقية من ذلك أن الأمر يتعلق بسوء تقدير للمسألة من طرف الرفاق وعدم التمعن جيدا في انعكاساتها وهذا ناتج عن ارتجالية الخطوة وعدم تداولها وطرحها للنقاش الداخلي بما فيه الكفاية. وهذا ما يدل عليه تصريح عناصر قيادية من ايرا بأنهم يعترضون على ما حدث وليسوا على علم به.
إلى هنا لا تزال المسألة في حدود الاستنكار الشفوي الذي لن يطول كثيرا حتى تدخل المسألة في طور آخر هو التسييس ويبدو هذا الطور من خروج محمد ولد عبد العزيز إلى العشرات التي توجهت إلى قصره عشية الجمعة مستنكرة ماقامت به إيرا مع العلم أن القصر نفسه شهد اعتصاما دام لأسبوعين نظمه تجمع كواس حامل شهادة وانتهى باقتحامهم له ولم يتوقف عندهم ولد عبد العزيز إبان عودته من تنصيب الرئيس السينغالي فضلا عن أن يخرج إليهم ليستمع إلى ما يحملونه إليه من مشاكل وشجون!
وطبعا ظل القصر كل الفترة الفارغة قبلة لجميع أصحاب المطالب والتظلمات ولم يلقوا أية آذان صاغية!.
إطلالة ولد عبدالعزيز أعطت الإشارة لأحزاب الأغلبية ووجهت مواقف وبيانات أحزاب المعارضة والأطر الدائرة في فلكها، ربما من حيث لا تدري، في إتجاه التدافع معه بكل براجماتية على استقطاب شعور الجماهير المتدينة لذلك أتت البيانات في أغلبها فورة عاطفية أقل ما يمكن ان يقال عنها أنها نظرت إلى الحدث معزولا عن سياقه العام وهي بهذا خلقت جوا اجماعيا حول استخدام قضية ربما تكون هي المتضرر الأول منها.!
تمت إدانة تصرف إيرا بالإجماع وأعطت السلطة توصيات برعاية وتأطير المسيرات الشعبية المحتجة على إحراق المتون الفقهية المالكية وأومأت إلى أئمة المساجد الموالين بتسيير مسيرة للقصر وخرج إليها ولد عبدالعزيز هذه المرة أكثر استعدادا وأقل تحرجا وألقى خطابا عاطفيا مؤثرا توعد فيه بمحاسبة مجرمي إيرا وتطبيق الشريعة!. وبموازاة ذلك كان وزير الخارجية حمادي ولد حمادي يعبئ للقضية على المستوى الديبلوماسي مستفيدا من جو الإجماع الذي ساد حولها، وبين هذا وذاك كان الجهاز الأمني يمعن في ملاحقة وإقتحام منازل نشطاء منظمة إيرا لإثبات جدية سعي الجهاز الرسمي في تطبيق ما أعلن عنه سيادة الرئيس.
إن التوظيف السياسي للمسألة هنا غير خاف، وبما أننا نتكلم من منظور سياسي نفعي، فقد كان الرابح دون شك هو النظام الذي ابتهل هذه المناسبة ليأخذها طوق نجاة من مشاكل اجتماعية كانت تلاحقه هنا وهناك ومن مطالب سياسية تصاعدت حتى وصلت حد المطالبة باسقاطه.
والأدهى والأخطر من كل هذا أن هذه الصحوة "المجمع عليها" ركبتها جموع من العنصريين من كل الأطراف (موالاة ومعارضة) تريد من خلالها تصفية حساباتها مع الانعتاقيين الذين استفزتهم تصريحاتهم الجارحة دائما التي ما فتئوا يطلقونها من خلال بياناتهم ومقالاتهم ومقابلاتهم ومؤتمراتهم الصفحية وكانوا يتحينون الفرصة لالحاق أي أذى بهم وهذا تطور طبيعي لحالة التشنج الخطابي التي كان هؤلاء يقابلون بها ظاهرة الانعتاقيين، كما أن تصرف الانعتاقيين أيضا تطور طبيعي لتصريحاتهم النارية اتجاه المنظومة الدينية المالكية التي يرون أنها تكرس الإستعباد.
إن المتفرج على مواقع التواصل الاجتماعي هذه الأيام يرى بكل جلاء ما تنطوي عليه الصحوة الحالية من روح عنصري متعاظم بحيث لن يعدم عبارات مثل "العبيد" و "آزكير" و "ازرام" و"اخنز البيطان" و"جهل لعبيد" و "عدم أحقية العبيد في الافتاء" و "عدم اهلية العبيد لامامة الصلاة"... إلى غير ذلك مما يطفح بروح التمييز العنصري الواضح ولا أعني به فقط إجترار الشائعات الفاقدة للأدلة من قبيل "العمالة لإسرائيل" و"العلاقة الغرامية لبيرام مع إيفانا داما" بل هناك تعبئة تزرع الرهاب من تغلب حراطين في الظاهر بينما هي تستبطن اشاعة الفوبيا من العدالة بحقهم وتشيع ثقافة أن العبد مهما يكن لا يستساغ أن يكون له رأي فكري ولاديني، لا سيما إذا كان من قبيل بيرام ورفاقه المتمردين. ولذلك يثني هؤلاء على مواقف حركة الحر المهادنة، من دون أن يضعوا في الاعتبار أن حماسها الخطابي والنضالي الشبابي قد خبا بفعل التقادم والشيخوخة. ليس إلا.
أمام هذه الأدران التي تصطبغ بها الصحوة الحالية والسياق الوطني الذي أتت فيه يتحتم على كل الوطنيين والشرفاء أن يتموقفوا تموقفا حكيما لا يصرف نظرهم عن هدفهم الاستراتيجي ولا يجعلهم ينجرون في تعبئة عرقية ودينية شعبوية وهذا لا يعني بالضرورة أن يكونوا فسقة أو مستهترين لأنه من المسلم به أن حرق الكتب مهما تكن أمر مرفوض لا سيما إذا كانت هذه الكتب دينية تؤسس مشاعر ومقدسات شعب بأكمله كالشعب الموريتاني.