أقدم ناشطون من حركة "إيرا" المناهضة للعبودية في موريتانيا على حرق مجموعة من أمهات كتب المذهب المالكي المعتمدة في موريتانيا و في عموم منطقة المغرب العربي مثل "موطأ" الإمام مالك، و "مدونة" سحنون، و "ترتيب المدارك" للقاضي عياض، و "الواضحة في السنن و الفقه" لابن حبيب، و "مختصر" خليل، و "مختصر" الأخضري، و"رسالة" أبن أبي زيد القيرواني، إلخ. و قد شرح رئيس تلك الحركة بأن هذا الفعل بالغ الرمزية قد جاء تدشينا لمرحلة جديدة من النضال و الاحتجاج على ما تعتبره الحركة استمرارا لتراث فقهي بشري مستحكم كرس العبودية و القهر و العنصرية و التفاوت الطبقي في موريتانيا منذ عدة قرون من خلال التأويل التعسفي للنصوص الدينية المرجعية خدمة لأهداف دنيوية سياسية و مجتمعية هي أبعد ما تكون عن قيم الحق و العدل و المساواة التي بشر بها الإسلام و نشرها في أرجاء المعمورة.
لكن، إذا تجازونا لحظة الصدمة العاطفية و التوظيف السياسي و الإعلامي الممنهج للحادثة، فهل كانت لعبة حرق الكتب مرتبة مسبقا بغية استغلال أجواء التجاذبات السياسية الراهنة بين السلطة و المعارضة و التأثير على موازين القوى المتخاصمة في الساحة الموريتانية؟ و هل كان بيرام و جماعته يقدرون حقا حجم التداعيات الخطيرة التي ستحدثها فعلتهم "الرمزية" و مستوى الاستياء الديني و الشعبي العارم استنكارا و تنديدا لموقفهم؟ هل وقعت "إيرا" في الفخ ؟ أم أن كل شيء يهون في سبيل تحقيق مكاسب جديدة لحركة ظلت تبحث عن ذاتها وسط ركام تلك التجاذبات أو خدمة لأجندات أجنبية مشبوهة لتفجير الأوضاع بطريقة استفزازية من خلال الإثارة و التشنج و الفوضى "الخلاقة"؟ هل حرق الكتب المالكية هو تجديف و كفر؟ أم هو ثورة ثقافية ستؤسس لمرحلة جديدة من تجديد القيم الإنسانية، لكنها فحسب جاءت سابقة لأوانها؟
تاريخ الشعوب و الحضارات شرقا و غربا مليء بأحداث إتلاف الكتب حرقا، وغسلا، ودفنا، وإغراقا...و قد ذكر الشاعر و الصحفي الألماني "هنريش هين"، الذي عاش في القرن التاسع عشر، عبارة باتت تؤرقني دائما: "حيثما تحرق الكتب، سيحرق الرجال في نهاية المطاف ". طالعت تلك العبارة لأول مرة لدى قراءتي قبل ثلاث سنوات لكتاب "التاريخ الكوني لتدمير الكتب بدء من الألواح السومرية إلى حرب العراق" للكاتب الفنزويلي المميز "فرناندو باييز"، حيث استهل المؤلف بحثه، الذي ترجم إلى أكثر من 12 لغة عالمية، بهذه العبارة المحزنة. و قد صدر الكتاب باللغة الفرنسية سنة 2008 عن دار "فايار" الباريسية للنشر في 527 صفحة. و خلص المؤلف إلى أن بواعث تدمير الكتب هي أبعد ما تكون عن مجرد الجهل، بل تتم غالبا بقصد محو الذاكرة الجماعية والتاريخ، أي تدمير هويات الشعوب.
في سنة 48 م أحرق قيصر الرومان مكتبة الأسكندرية، و في سنة 146 أحرقت كل مكتبات قرطاج. و أحرقت مكتبة روما سنة 181 م بسبب الكتب الفلسفة الإغريقية التي احتوتها. و في سنة 371 م أمر "فالنس" بإحراق كل الكتب غير المسيحية في أنطاكية، و في سنة 590 أمر البابا "اغريغوار الأول" بإحراق كل الكتب التي تعود لعهد روما القديمة، و في سنة 442 أحرق العرب مكتبة السكندرية، و في سنة 1109 أحرق الصليبيون مكتبة دار العلم في طرابلس، و في سنة 1258 أحرق المغول 36 مكتبة في بغداد، و في سنة 1309 أحرقت مكتبات اليهود في باريس، و في 1499 أحرقت الكتب العربية و الإسلامية في غرناطة، و في سنة 1535 أحرق "شارل كوينت" مكتبات تونس، و في سنة 1812 أحرقت جل مكتبات موسكو، و في سنة 1814 أحرقت مكتبة الكونغرس الأمريكي من طرف البريطانيين.
و قد استمرت ظاهرة إحراق الكتب في القرنين العشرين و الحادي و العشرين.. وصولا إلى يوم الجمعة الماضي الموافق 27 ابريل 2012 حيث أقدمت حركة "لإيرا" الإنعتاقية على إحراق رمزي لبعض أهم كتب المذهب المالكي في ساحة عمومية في العاصمة انواكشوط، و هو الحدث الذي أثار و يثير ردود فعل واسعة النطاق من الشجب و التنديد في الأوساط الشعبية و السياسية و الثقافية في عموم البلاد بسبب غرابة المشهد و طبيعة توقيته و غموض مراميه...
أما تاريخ حرق الكتب في التراث العربي الإسلامي فهو عريق جدا حسب ما يذكره المؤرخون. سلسلة من قرارات المنع والحجب تتوالى على الكتاب مرة وعلى الكاتب أخرى، تاريخ متوارث من القمع والجهل المنبثق من ثقافة الكلام والشفاه خوفاً من القلم أن يكتب وخوفاً من الورق أن يحفظ ما كتب وخوفاً من الفكر أن يزعزع ثوابت العقول الجامدة. إنه تاريخ لم يُراق بالدماء ولكن أريق بكتب العلماء والمفكرين كما يصر على ذلك بعض الباحثين المعاصرين في هذا المجال.
لقد ذكر الباحث ناصر الحزيمي، صاحب كتاب "حرق الكتب في التراث العربي" الصادر سنة 2002 أحداثا كثيرة حول إتلاف الكتب وفق تسلسل زمني منذ سنة 82 هـ إلى سنة 913 هـ. وقد تعرض المؤلف إلى نماذج مما جرى من تلك الممارسات على مدى عشرة قرون، بدأت من القرن الأول الهجري، وبالتحديد سنة 82 هـ ، بكتاب (فضائل الأنصار وأهل المدينة) الذي كتبه ابان بن عثمان بن عفان (ابن الخليفة) و اتلفه عبد الملك بن مروان لأنه لم يكن يعترف بفضل الأنصار في الفتوحات والجهاد.
و قد اختصر الباحث كتابه على نوعين فقط من اتلاف الكتب أولهما: اتلاف السلطة للكتب (تتجلى السلطة هنا بجميع انماطها من سلطة الحاكم او المجتمع او الفرد او سلطة الايدولوجيا أو العادات و التقاليد، إلخ.). أما النوع الثاني فهو الاتلاف الشخصي للكتب ويتمثل بإتلاف الكتب لأسباب علمية او اعتقاديه او نفسية و قد كان منتشرا في العالم العربي والإسلامي، ففي الفترات المبكرة من الاسلام استثني القران من هذا العداء فدون مصحف عثمان وأتلف ما عداه من المصاحف. ثم تطور الموقف فاستثني تدوين السنة مع القرآن وكره ما عداه مثل كتب الرأي.
و في سنة 163 هـ أمر الخليفة المهدي بتقطيع كتب أنصار المُقنَّع الذي خرج عليه بخراسان، وذلك بعد أن قتلهم وصلبهم وكانوا من المسلمين. و في سنة 322 هـ أحضر أبو بكر بن مقسم - وهو من النوابغ في عصره- ببغداد وقيل إنه قد ابتدع قراءة لم تعرف وأحضر ابن مجاهد والقضاة والقراء، وناظروه فاعترف بالخطأ وتاب منه، وأحرق كتبه. كما ذكر المؤلف تحت عنوان (العلماء الذين اتلفوا كتبهم) 35 اسما من بينهم ابا حيان التوحيدي، و ابو عمرو بن العلاء، وابن سينا، والماوردي.
هذا مجرد تذكير موجز في محاربة الكتب في التاريخ البعيد والقريب. ومن الحوادث البعيدة تدمير مكتبة آشور بانيبال، وإحراق أخناتون النصوص التي تختلف مع فكرة الوحدانية التي كان يدعو إليها، اذ قام الكهنة بحرق كتبه حينما مات. وإحراق مكتبة الإسكندرية حيث جعلت كتبها العامرة شعيلا للحمامات لأربع سنوات. ثم إحراق الإمبراطور الصيني كين الكتب بدافع سياسيّ غرضه توحيد الصين، احتجّ أربعمائة عالم على إحراق الكتب فدفنهم أحياء. ثم الفيلسوف العربي ابن رشد الذي أحرقت كتبه في الاندلس في عهد ملوك الطوائف. ثم صلاح الدين الأيوبي الذي دمر المكتبة الفاطمية و كذلك دمرت مكتبة المنصور في قرطبة سنة 1000هـ .
و يفسر بعض الباحثين المعاصرين هذه الظاهرة، حيث يرون بأن إحراق كتب التوحيدي إنما كان أسوة بأئمة يُقتدى بهم مثل الفقيه الزاهد داود الطائي، الذي يسميه (تاج الأئمة) الذي ألقى بكتبه في البحر، والزاهد المعروف يوسف بن أسباط الذي ألقم كتبه غاراً في جبل وسدّه عليها، وأبي سليمان الداراني الذي سجر كتبه في تنور، وسفيان الثوري الذي نثر كتبه في الريح بعد تمزيقها وأبي سعيد السيرافي الذي أوصى ابنه أن يُطعم كتبه النار.
و يرى مؤلف كتاب "حرق الكتب في التراث العربي" أن من أسباب إتلاف الكتب أسبابا شرعية، ففي صدر الإسلام حيث كانت كل الكتب ما عدا (القرآن) قد حرقت. ثم هنالك أسبابا أمنية خوفاً من الفتن أو لأسباب دينية او لأسباب نرجسية لإرضاء غرور بعض السلاطين أو لأسباب عصبية قبلية أو لخلافات مذهبية و طائفية.
لكن، لماذا اختارت حركة شابة تقدمية تتطلع أن تكون المدافع الأبرز عن الحقوق الشرعية لشريحة مجتمعية واسعة من الموريتانيين ممن جنى عليهم التاريخ و المجتمع في الماضي، أن تسقط في أتون التجديف و تدنيس المقدس؟ لماذا تورطت حركة "إيرا" المناهضة للعبودية في الغوص في مجال بالغ الحساسية و الصعوبة هو مجال معايرة النصوص الدينية.. و نقد و تمييز مؤلفات كتاب و شراح المذهب المالكي جرا و تنكيلا و حرقا.. هل تعي حركة "إيرا" جيدا صعوبة و جسامة المهمة التي انتدبت لها نفسها؟ و هل يمتلك منظرو تلك الحركة كامل الأهلية الفكرية و الأخلاقية معرفيا و ابستيمولوجيا و منهجيا كشروط قبلية لازمة لتحدي سلطة النصوص الروحية بعد ما أعيتهم الحيلة في مقارعة السلطة الزمنية حينا و مغازلتها أحيانا؟
هل ما أقدمت عليه "إيرا" عن سابق إصرار و ترصد هو مغامرة طائشة و فقاعة فارغة لا تعبر عن شيء و لا تمثل أي بعد ثقافي أو فكري؟ أم سيكون لهذه الفعلة ما بعدها؟ بعد أن تهدأ الأمور و تطمئن أنفس المؤمنين بعد استفزازها؟ هل ستشكل محرقة كتب المالكية مقدمة لكتاب لم يكتب بعد حول ثورة ثقافية قادمة تفتح آفاق البلاد نحو إصلاح ديني جديد يعيد تأصيل النصوص الدينية ويحقق شروط الحداثة؟
لا أحد يستطيع التكهن بما ستجري إليه تداعيات الموفق الصاخب حاليا و المليء بالمتناقضات : منظمة غير مرخصة تقيم قداسا في الهواء الطلق و تتبع لها ميليشيات تمارس البلطجة دون أي تدخل رسمي.. إعلام رسمي يحضر لتوثيق محرقة كتب المالكية بالصوت و الصورة و يتخلف عن تغطية حتى حفل صغير للتشجير المدرسي.. قوى أمن تنكل بطالبات لمجرد رفعهن شعارا.. و تغيب مجساتها في ساحة عمومية تنظم فيها جمعة "مضادة" و يجري على هامشها حفل لحرق أمهات كتب المالكية.. عدالة تتنظر من يعطيها الضوء الأخضر للممارسة صلاحياتها.. في حين يفترض بأنها سلطة مستقلة.. أحزاب أغلبية و معارضة تتبارى في أدبيات الشجب و الإدانة و تتقاذف المسؤولية عن ما وصلت إليه الأوضاع.. و هي في الحقيقة ظلت تغازل حركة "إيرا" في السر و العلن و تعقد معها صفقات التحالف و التنسيق.. أو تقعد منها مقاعد للسمع.. من أجل حسابات انتخابية و تكتيية..
لقد تأكد لدي بعد استقراء لمجمل الأحداث المتلاحقة و الردود التي أثارتها، بأن خيرة من مثقفي و شباب هذا البلد- للأسف الشديد- قد يقعون بسهولة في أسر الإثارة الرخيصة أو المغالطة البشعة، إذا لم نلتمس لهم أحسن المخارج التي لا أظنها قد تكون شيئا آخر غير ضيق الأفق و العاطفية المفرطة في تناول و تحليل الظواهر و المشكلات المجتمعية التي لازالت تعاني منها و من آثارها السلبية بلادنا و مجتمعنا الموريتاني.
و لعل ما خرج به علينا اليوم الأخ المبجل بيرام ولد الداه ولد اعبيدي، و هو شاب أحترمه كثيرا و أقدر مواهبه، و لا يمكن أن أحاسبه قطعا على اختلافي في الرأي معه، إنما يعد نموذجا فاقعا لمثل هذه الهفوات التي لا تليق لا بمكانته هو و لا بمكانة نضالات الحركة التقدمية الإنعتاقية في قلوبنا جميعا، و لعل البلاد هي أيضا في غنى عن مثل هذه المجازفات الآن، خاصة مع احتمالات ما تنذر به الأيام القادمة من توتر و أزمات خانقة.
وفي انتظار استيضاح خفايا و غوامض الموضوع، أستسمح قرائي الأفاضل من أجل تبيان الأمور الآتية بإيجاز:
• إن ظاهرة العبودية و الاسترقاق في العالم لم تكن يوما من الأيام محصورة في فئة مجتمعية معينة لا تاريخيا و لا جغرافيا؛
• إن عامل لون البشرة لم يكن محددا علميا لتمييز العبيد و الأسياد في موريتانيا منذ تاريخها الروماني القديم إلى اليوم، لأن اللون ببساطة قد يصلح لأن يكون هواية شخصية، و لكنه لا يمكن أن يشكل هوية مجتمعية و ثقافية أو برنامج عمل سياسي ضمن الظروف الطبيعية و التعاطي الإيجابي في حياة المجتمعات و الشعوب ؛
• إن أقرب شيء إلى النزعة العنصرية بمعناها الكلاسيكي المتجاوز جدا هو التمييز بين بني البشر عن طريق لون البشرة، لأنه لم يعد يعني شيئا من الناحية العلمية بعد أن سقطت منذ زمان كل النظريات الإتنولوجية و الأنتروبولوجية التي كانت تؤسس علم الأجناس و أصبحت من الماضي السحيق الذي لا يلتفت إليه أحد؛
• في أكثرية الدول الأفريقية لم تمنع الصفة المشتركة للون البشرة من التمييز البشع بين مئات الأعراق و الإثنيات المختلفة (السنغال 22 مجموعة أثنية) و (20 في مالي) و (27 في رواندا) أحرى أن تحول دون الإقتتال الدموي بين "التوتسي" و "الهوتو" مع أن كلهم كانوا سود طبعا؛
• لم تمنع صفة لون البشرة المشتركة من التمييز بين مئات الأعراق و الإثنيات المختلفة في أنحاء مختلفة من العالم، من التمييز و الاضطهاد و التنكيل (أكثر من 100 مجموعة إثنية في فرنسا إضافة إلى 8 لغات محلية) و (17 مجموعة أثنية في إسبانيا) و (25 مجموعة أثنية في تركيا) كما أنها لم تمنع من صراع الإسبان مع الباسك و لا الفرنسيين مع الكورس و لا العرب مع الإسرائيليين و لا الأتراك مع الأكراد و لا الأرمن مع الأتراك و اليابانيين مع الصينيين، إلخ.. مع أن جميعهم من ذوي البشرة البيضاء طبعا؛
• إن لعبة تسييس الأقليات و الإثنيات و "الحراطين" و "لكور" و "البربر" و "لعرب" و "حزب حسان"، كلها أوراق قد أصبحت ذابلة و بالية منذ زمان، بعد أن تم استنفادها من طرف أجيال من السياسيين الموريتانيين، من كل الألوان و الأطياف، باعوا و اشتروا من خلالها و حصلوا على ما حصلوا عليه، و اليوم لم يعد "تحريك" هذه الأوراق يفيد شيئا إلا ما يسمى بالحسانية بـ"اتبعريص فيه إلا شين الميته"؛ • إن الممارسة السياسية بشكل عام فاشلة في بلدنا و في العالم منذ فترة: لأن الجماهير محبطة و لم تعد تهتم لا بالسياسة و لا بالسياسيين لكثرة كذبهم و خداعهم للمواطنين البسطاء، لذلك نجد في بلدان كثيرة من العالم مجموعات صغيرة هامشية و لكنها كثيرة الصخب و الشغب و قد سيطرت على الشارع السياسي مع أنها لا تحمل أفكارا و لا رسالة جادة. و هي مجرد بؤر متفرقة تروم فقط الإثارة و التحريك و التشكيك و التحريض من أجل لفت الانتباه إليها بغية الحصول على بعض فتات الموائد و المآدب الكبرى التي تسيطر عليها الحيتان الكبيرة ليس إلا. و لعل هذا هو ما يفسر الزخم الكاذب الذي تتمتع به اليوم في الغرب جماعات فاشلة و كاسدة مثل المطالبين بحقوق "اللواطيين" و "المثليين" و بعض جمعيات الرفق بالحيوان و أنصار البيئية و حركات اليمين المتطرف، و غيرهم من "التبتابه" و المزايدين؛
• إن ظاهرة السيطرة على قيادات بعض الحركات السياسية من طرف أناس هم أصلا من محدودي التحصيل المعرفي و العلمي، و تنقصهم الحصافة و الإحاطة و الدقة ممن لم يعرفوا إلى أساليب البحث العلمي و المنهجي سبيلا ، حتى و إن كانوا من الناشطين تنظيميا، من أمثال الأخ "بيرام" ، قد أسهمت في تمييع قواعد ممارسة الأنشطة المدنية و إفساد مرجعياتها و قيمها و قلب توازناتها و ثوابتها، فأصبحت ملاذا لكل فاشل و كل طامع، و عنوانا كل مراوغ و مناور باحث عن دور باهت لـ "كومبارس" صغير يظل ينعق بكل فظاظة إلى أن يجد من يستأمره على تنفيذ أجندة خاصة قد يستفيد منها و لو بنزر قليل؛
• الأخ "بيرام" بعد ظهوره السياسي المتزن سنة 2007 و محاولته ركوب موجة مرشح الرئاسيات "الزين ولد زيدان" المخملية و التماس بريق ملعقته الذهبية، سقط فجأة في راديكالية فجة و غامضة، و تبنى خطابا ناريا قدحيا يائسا، جعل منه ذلك المنبت الذي "لا ظهرا أبقى و لا أرضا قطع". فلا هو بقي في دائرة رموز القيادات الشبابية لحركة الحر التي تطمح أن تشكل في المستقبل بدائل للقيادات العتيدة الحالية بمختلف مشاربها، و لا هو استطاع أن ينتقل بملف مهم جدا مثل "العبودية و الإسترقاق" إلى مستوى التعاطي الايجابي بشكل قادر على استيعاب النقلة النوعية لتطور الملف من الناحية المؤسسية، بعد أن أصبح قانونا تبنته الدولة و سحبته إليها و لم يعد قضية أشخاص يناورون به هنا و هناك؛
• جاء ظهور "بيرام" في سياق موجة من شيوع التنطع و التهور و اللامبالاة بعبء المسؤولية الأخلاقية اللازمة لمهمة توجيه الرأي العام في المجتمع، لم يستطع كذلك أن يعظم الاستفادة من تطور قضية عادلة و وجيهة و إنما سقط دون ذكاء يذكر في عقدة السلبية و المظلومية، محاولا الرجوع بعقارب الساعة 30 سنة إلى الوراء من خلال بعث خطاب راديكالي لم تعد مقوماته موجودة كما أن من صنعوه و من نفخوا فيه الروح مازالوا أحياء يرزقون، وقد حققوا به ما حققوه (ولد لحمير، ببكر، مسعود، بيجل، مرزوك، إلخ) و هم يعتبرون أنفسهم بالتالي أولى المعروف من غيرهم من الشباب المستعجلين على رغد العيش و الرفاهية الحالمة و لو على أكتاف قضاياهم و قناعاتهم النضالية؛
• كل هذه المبررات و غيرها لا يمكن أن تبرر بأي حال من الأحوال اعتقال "بيرام" بطريقة غير قانونية و لا التنكيل به. بل يجب أن تأخذ الأمور مجراها نحو العدالة بدون أي تدخل و لا مزايدة.. و لا تسييس.. و لكن، يبدو أن تلك الأمور هي جزء من لعبة صدئة و مؤامرة مستمرة ضد هذا الشعب الغلبان و هذا البلد المغلوب على أمره. إن اعتقال ولد اعبيدي في هذا الوقت بالذات، هو أساسا من أجل تلميعه و خلق شخصية وطنية منه بالتعسف و المكر، و سيجري لاحقا التفاهم معه في إطار صفقات سقيمة لتبادل الأدوار و التنافس الأناني على الامتيازات و الحظوة بين القيادات السياسية لحركة "الحر" و مغازلاتها و متاجراتها مع النظام، بعد أن فقدت تلك الحركة ورقة "العبودية" من خلال إقرار الدولة لقانون "الرق" و تقاعسها عنه في نفس الوقت بإفراغه من محتواه الحقيقي و الإبقاء عليه فقط لمجرد المناورة السياسية الموسمية قبل الانتخابات القادمة؛
في الأخير، ألتمس مرة أخرى أحسن المخارج للأخ بيرام من هذا المأزق الذي لا يليق به و هذه الورطة التي فاجئنا بها. و على كل حال، يبقى أن نقول بأن اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية، ولكني سأذكره بأن الأهداف النبيلة التي ناضل و يناضل ببسالة من أجلها هي بلا شك أهداف تحررية يشاركه فيها كل الشرفاء من أبناء هذا الوطن في كل زمان و مكان، علم و اشتهر منهم من علم و اشتهر، و ارتحل منهم من ارتحل مطمئنا إلى رحمة ربه و احتجب منهم من احتجب مروءة لذمته و كظما للغيظ، لا خوفا من الفانين و لا طمعا في الفانية. و كم كان بودي أن يستجمع الأخ بيرام كامل شجاعته الأدبية فيؤلف كتابا نقديا حصيفا يرد به على فقهاء المالكية و يبين موقفه بالحجة و الدليل بدل اللجوء إلى أساليب الجهالة و الهمجية التي كانت سائدة في القرون الوسطى...
نواكشوط، 29 ابريل 2012