نواكشوط - المختار السالم:
محمد ولد عبد العزيز، هو أول رئيس موريتاني يتحدى الشعراء ويفتح النار عليهم، ويصف تسمية “بلاد المليون شاعر” ب”المأساة”، ويهاجم الصحافة، حيث لم تسلم من خطابه “الشعبوي اللاذع” أي من مظان التمرد وبوادر الاستياء. لا يبدو الرئيس وهو يقود سفينة الرمال الموريتانية حذراً من الغوص في أي من خلجان التحدي، فهو يزداد كل يوم شراسة ويتوعد برحيل مناوئيه “الذين يخططون لثورة فساد” و”يأمرون الصبيان بالكتابة على الجدران” .
لم يفقد الرئيس أعصابه على عكس ما تروج له منسقية المعارضة الموريتانية، بل يسعى إلى تشتيت الانتباه في أكثر من جهة، يجيد الرئيس “صقريته” الفذة، ويفتح المناورات في كل الاتجاهات، فذلك على يبدو هو أسلوبه الخاص في التمتع بالحصانة من همّ الربيع العربي، الذي صار الأغنية الوحيدة في المقام المعارض . ويعتقد الرئيس، وبإيمان مطلق، حسب مقربيه، أن المعارضة الموريتانية تحاول ابتلاع لقمة أكبر من فمها، ستختنق بها لا محالة لتسلم الروح وهي صاغرة جراء الهزيمة تلو الأخرى .
لقد بدأ الرئيس منذ فترة في “تخليق” معارضة على ذوقه، وهو الآن يخطط لوضع نهاية لأسطورة “المعارضة الناطحة”، وليس أنكى للمعارضة من أن يتم ذلك في الشارع العام، حيث ساحة المعركة التي اختارتها هي بنفسها .
بعد ستة أشهر من بدء منسقية المعارضة الموريتانية تنفيذ “استراتيجية التصعيد” ضد نظام الرئيس محمد ولد عبد العزيز، ووصول طرفي الأزمة إلى نقطة اللاعودة بين معارضة مصرة على الإطاحة بالنظام عبر ثورة شعبية، وبين نظام يرفض الحوار ويدعو للاحتكام إلى الانتخابات العامة، وصلت الأزمة الموريتانية إلى المرحلة الحرجة، وتضاءلت أنصاف الحلول مع اقتراب موعد “اعتصام الرحيل”، الذي حددت “بروفته” الأولية في الثاني من مايو/أيار المقبل، وكانت مسيرة الشباب والنساء يوم الأحد الماضي أحد أجراسه، حيث خرج عشرات الآلاف من الشباب في وسط العاصمة نواكشوط وهم يرددون “جاهزون لترحيل محمد ولد عبد العزيز” .
لقد كانت الأشهر الماضية بالنسبة للمعارضة مرحلة هي استعادة الشارع، أما المرحلة المقبلة، وكما هي مفصلة على أجندة المنسقية، فتعني الانتقال إلى شرعية الثورة، وأخذ زمام المبادرة نحو خطوة حاسمة لوضع النظام أمام الأمر الواقع .
قد لا يكون مايو/أيار شهر الحسم، رغم دعوة المنسقية رسمياً ل”اعتصام النصر”، أو “اعتصام الرحيل” في هذا التاريخ، فهناك يونيو ويوليو وأغسطس، هي أشهر الانقلابات والتغييرات الدراماتيكية في موريتانيا، وهذه الأشهر تأتي هذه السنة وسط أزمات متزامنة . . الجفاف يضرب قطاع الريف وسكانه ونداءات الاستغاثة تتواصل من الداخل، طلاب التعليم العالي في مواجهة مستمرة مع النظام رفضاً ل”عسكرة التعليم”، حركات الشباب (25 فبراير، وحركة الشباب الموريتاني) تخوض أيضاً مواجهة “الرحيل”، العاطلون يتظاهرون، والناقلون يهددون بشل حركة النقل في عموم البلاد، النقابات تحذر وتنذر . .
ترى المنسقية أن الفرصة الوحيدة المتاحة أمامها هي استغلال فصل الصيف وأزماته، وإذا أفلت النظام من هذا الشرك المحكم بيئياً وسياسياً، فما على المنسقية سوى قراءة الفاتحة على روح الثورة المفترضة، والنزول على إرادة الجنرال الذي أثبت براعته في كسب ود الحظ .
معركة تحضير الشارع للثورة أشرفت على الاكتمال، لم يعد هنالك الكثير لتكسب المنسقية من الانتظار، النظام من جانبه وضع تحصيناته، وقرر الرئيس ولد عبد العزيز مواجهة المنسقية شارعاً بشارع وولاية بولاية، لم يستمع لنصائح مستشاريه، وها هو يختار شهر مايو/أيار بكل حرارته وجفافه وعواصف تظاهراته المطلبية، لينزل للشارع في أوسع جولة داخلية ستكون محطة التحدي فيها منطقة الشرق (ولايات الحوضين والعصابة)، حيث الخزان الانتخابي والسكاني الأكثر تضرراً من الجفاف، والأخطر اجتماعياً إذا قرر سكانه التحرك .
يدرك الرئيس ولد عبد العزيز صعوبة المهمة، ولهذا عاد لأسلوب نظام ولد الطايع في إدارة معركة المهرجانات الشعبية، فمسؤولو الشركات والقطاعات هم مهندسو التعبئة الجماهيرية .
إلا أن ما يخشاه النظام ليس قدرته على الحشد، بل خبرته في التصدي للحشد المضاد، والآليات الأنجع لمواجهة الشارع المناوئ .
ويرى مراقبون في نواكشوط أن المعارضة كانت تتحرك وفق النشاط الرسمي المرخص قانونياً وقد ربحت جمهوراً واسعاً، لكنها وصلت السقف الأعلى في هذا الإطار، وهي الآن تتجه إلى النشاط غير المرخص، أي إلى الاعتصام الدائم لحين الإطاحة بالنظام، وهو ما لا يتوقع أن يتساهل معه الرئيس حتى وإن بات يحفظ عن ظهر قلب تجارب ودروس فشل الحل الأمني في مواجهة اعتصامات الرحيل في دول “الربيع العربي”، ذلك أن كل المؤشرات تدل على أن نظام ولد عبد العزيز يتجه للقمع، ودل على ذلك قمع التظاهرات السلمية الشبابية والطلابية وتظاهرات المطالب الاجتماعية والمعيشية .
ومن هنا فإن قدرة المنسقية على امتصاص القمع والالتفاف على آلياته ستكون حاسمة في خيارها “الثوري”، خاصة إذا تمكنت من شل القطاعات الحيوية عبر تحريك أذرعها النقابية القوية، في حين أن رضوخ المنسقية “للعمل القانوني” في المرحلة المقبلة سيقلص قدرتها على التأثير، بل قد يعود بنتائج عكسية تماماً، حيث الجمهور المناوئ الذي مل الانتظار على صفيح الوعود، وسيكون أي تراجع للمنسقية عن خط التصعيد بمثابة الضربة القاضية عليها شعبياً ومعنوياً .
ويجب هنا التذكير بأن الشباب الراديكالي في المنسقية والقوى الموازية من شبابية وحقوقية ما فتئت تحذر من “تصعيد مساومات” وتستعجل حرق المراحل حتى لا يتكيف النظام ويكتسب مناعة تجعله محصناً ضد “داء” الربيع العربي .
الترقب الآن هو سيد الموقف في الساحة الموريتانية: هل تخطو المنسقية بالفعل نحو “الخط الأحمر” وتدخل في “ميدان تحرير” جديد، هل يمكنها الصمود وتقديم الضحايا، هل يمكنها تنظيم حدث من هذا النوع، وتسويقه داخلياً وخارجياً . . هل يقبل النظام بسلمية التحرك، ويتعامل بتحضر مع الحدث، يتجاهله، أم يواجهه بالقوة؟
هذه الأسئلة هي المطروحة الآن من طرف الموريتانيين في انتظار أن تفرج أشهر الصيف عن مخزونها السياسي .
وفي انتظار ذلك، تجب الإشارة هنا إلى بعض التعديلات المهمة هذا الأسبوع داخل “معسكرات” أطراف الأزمة، حيت تتمايز بسرعة “تحركات اللحظة الأخيرة” .
فقد ظهر جلياً أن أحزاب المعارضة المعتدلة تضع “فيتو” على أي حوار جديد بين النظام ومنسقية المعارضة، إذ حذر أحمد ولد صمب، القيادي البارز في المعارضة المعتدلة، من أن الثورة ستجرف ما سماه “نظام الخيانة” إذا تنكر لنتائج الحوار أو حاول إجراء حوار آخر للتهرب من استحقاقات الإصلاح، وجاء ذلك بعد خروج كتلة من ثلاثة أحزاب من الموالاة عن صمتها وتقديم تشخيص متشائم للواقع، مطالبة الرئيس بالشروع فوراً في الاتصال بكافة أطياف المشهد السياسي وبدء حوار شامل لإنقاذ البلد من الأزمة التي باتت تهدد وجوده وكيانه .
وقد فهمت تصريحات ولد صمب على أنها “رسالة إنذار” إلى الرئيس من أحزاب المعارضة المعتدلة برفض أي حوار جديد سيقضي لا محالة على امتيازاتها وشراكتها السياسية مع النظام، ويعني ذلك أن الرئيس سيخسر حتماً أحزاب الحوار الحالية إذا سعى للتهدئة مع منسقية المعارضة المتشددة .
ففيما فسرت خروج ثلاثة من أحزاب الموالاة (عادل، التجديد، التأسيس) ودعوتها “للاستماع إلى منسقية المعارضة”، بشعور تلك الأحزاب بخطورة المرحلة المقبلة، والاحتمالات الخطيرة لنتائج الصراع الحالي إذا استمر على الوتيرة الراهنة، ويؤشر ذلك أيضاً إلى أن هذه الأحزاب لا تمثل سوى رأس جبل جليد داخل أوساط الأغلبية التي تشعر أغلبيتها بالتهميش والإقصاء، لكن سيكون من عدم الإنصاف القول إن هذه الأحزاب لم تتحرك لتلافي الأسوأ إذا نفذت المعارضة المتشددة تهديداتها ودخلت في مجابهة حقيقية مع النظام، الذي لن يدخر حتماً أي وسيلة للبقاء في الحكم، الأمر الذي سيدفع بالبلاد إلى فوهة الفوضى . إلا أنه من غير المرجح أن يستجيب الرئيس ولد عبد العزيز لنصائح هذه الأحزاب الثلاثة، حيث اتضح أن الرئيس ماض في تأمين تحالفه مع أحزاب المعارضة المحاورة، التي قد تشكل فارق الربح أو الخسارة في المعاركة الميدانية، ولهذا أمر هذا الأسبوع ببدء المشاورات الفعلية مع أحزاب المعارضة المحاورة بشأن تشكيل اللجنة المستقلة للانتخابات، التي سيتقاسمها الطرفان وتعد عملياً هي أهم الثمار المرتقبة لنتائج “الحوار الوطني” الأخير .
معارضة متشددة غاضبة تخطط للثورة، ومعارضة ضد المعارضة وضد أي تفاهم معها، وكتلة من الموالاة تعارض النهج الأحادي لمواجهة الأزمة، ورئيس يرص حواجز التحدي حتى النهاية . . إنها موريتانيا التي تتجه إلى الشارع . . فمن يغوص أولاً في الرمال؟
المصدر : صحيفة "الخليج" الإماراتية