سيدي، بعد قراءة الفاتحة على روحك دعني أستن بسنة كبار السن حين يقفون على قبر حبيب إليهم، وعظيم شأن لديهم، يتواضعون ليهمسوا في أذنه كل أخبار الحي التي حدثت بعده... سيدي قبل أن أبدأ مع روحك الطاهرة أخبار البلاد دعني أنشد مع الشاعر قوله:
سيذكرني قومي إذا ما جد جدهم... وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
سيدي ذكرناك وليت الذكرى تجدي.. وافتقدناك وليت الفقدان يجبر ببعدي...
سيدي كما تعلمون لقد أوجدتم البلد أنتم ورفاقكم من الرعيل الأول من اللاشيء.. أوجدتموه حين اتكأتم على عصا من علو الهمة وسعة الباع المعرفي لتهشوا بها على سيبة البلاد لتحولوها من "بلاد سيبة" إلى دولة تدعي الانتماء للعالم المنظم! ولتكشفوا بها لثام "بلاد الملثمين" ليسفر عن وجه دولة حضاري جميل لا حاجة به إلى لثام...
أخرجتم البلد "أثابكم الله" من غياهب الاستعمار وبين أطماع التوسع حتى كاد يقف على قدميه لولا أن أخلف الله من بعدكم خلفا أضاع الأمانات واتبع الشهوات، ليلقي بعد ذلك بالبلد في غي من الانقلابات ما زال يتسعر في لظاه حتى الآن ....
سيدي لم تستقر أركان كسرى بعدكم طويلا... فما هي سوى أقل من سنتين حتى انقلب على كسرى رفاقه لينجوا بأنفسهم من السفينة بعد أن تأكدوا من قيادته إياها للغرق.. فقفزوا نجاة بأنفسهم..
دخل الجيش ممثلا في قادة التغيير هدنة مع الشعب على أنهم سيعيدون السلطة له وأنهم سيرجعون إلى دورهم الذي اشتاق لهم واشتاق له بعضهم (حماية الوطن..) الدور الذي يبدو حتى اللحظة أن بعضهم تركه في أرضية الحرب السالفة أوأنستهم إياه "للأسف" أجواء القصر الرمادي بعد أن دخلوه!
وعاش الشعب فترة أشبه ما تكون بأحلام المساء مرت مسرعة كسحابة صيف، استكمل فيها الشعب كل فصول المرحلة الاستثنائية من مراحل حياته.. مرحلة انتقل فيها من وهم زرعته في ذهنه الأنظمة السابقة، إلى شك ساوره من أكاذيب الفترة الانتقالية، إلى أن ظن"أن له من الأمر شيئا".. عاش ذلك الظن تحت ظل قيادة مدنية، فما لبث أن تحول إلى يقين يوم الثامن من أغسطس حين استيقظ الشعب على انقلاب يرفع أصحابه شعار : "على مهلكم مازال في مدرسة الانقلابين طلاب"!!!
سيدي لن أخوض لك في تفاصيل الوهم الطائعي ولا الشك الانتقالي ولا الظن المدني لأن المكان هنا موحش كما أن تفاصيل الفترة أوحش! ولكنني سأتوقف بك عند اليقين الواقعي الذي نعيشه اليوم.. سيدي منذ لحظة ذلك الانقلاب التي تبخر فيها حلم الشعب ونحن نتدحرج كما تتدحرج كرة الثلج إلى.... إلى اللا أيـــــــن؟؟؟؟ نعم إلى اللا أين... لكي لا أقول إلى الهاوية لا قدر الله....
منذ تلك اللحظة ونحن مصيرنا في يد جنرال يرفع مع جون كندي شعاره: "السياسة الداخلية قد تخذلنا ليس إلا، أما السياسة الخارجية فبإمكانها قتلنا"، بل يزيد عليه ويتمثل القول"السياسة الداخلية لا تعنينا، أما الخارخية "أوالفرنسية على الأصح" فهي مبتغانا! نعم يرفع هذا الشعار!! أو لم يخض عنهم حربا بالوكالة؟ بل كل همه أن لا تراه فرنسا حيث نهته ولا تفقده حيث أمرته.. لم يكتف صاحبنا للأسف بمكانة الجندي الطيع في الكتيبة الفرنسية بل سره أن يزيدهم ويقر أعينهم "حين كان يعدد لهم أوامرهم التي نفذها مسبقا" أن سخر لهم من مجده ومجد أجداده معلقا على لقب بلاده "بلاد المليون شاعر" بقوله: شقاء موريتانيا جاء من كونها بلد المليون شاعر، جاهلا أن الفرنسيين بل الأروبيين جميعا لا يرجعون سر نهضتهم إلى شيء بقدر ما يرجعونه لوجود أمثال فولتر وشكسبير ونظرائهم من الأدباء والمفكرين...
سيدي رحمكم الله فرض عليكم الوجود الفرنسي كأمر واقع فانسلختم منه بحكمة بالغة، أما صاحبنا هذا فوجد الغياب الفرنسي أمرا واقعا فرمانا بحكمة - "أوغباء" - بالغة في أحضانه...
سيدي آمنتم بجميع جزئيات الدولة وعملتم على تشكيل جميع قطاعاتها أما صاحبنا هذا فهو كافر بالدولة ككيان مؤمن بنفسه رافعا شعار أحد الملوك: نحن الملك وأنت الشعب! فهو لا يومن بتخصص غير مهنته! ولا مستحق للعمل غير أهل ميدانه! فهو الوزير والطبيب والخازن والوالي والبرلماني ومدير التلفزيون ومدير الأمن ووو... إلى كل نقطة عمل في الدولة يمكن للعقل البشري التفكير فيها أو لا يمكنه، لأنه باختصار تعلم ممن كان يحرسه أن يحتقر شعبه، وتعلم من "القائد" الذي كان يستوحي أفكاره أن يعظم نفسه.. فكأني به يوشك أن يرفع في الشوارع على غرار معلمه: لا تفكر فالقائد يفكر!
سيدي هذا حال من يحكم.. أما المحكومون (الشعب) فهم في هذه الأيام كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران، فالشعب يحاول أن يمسك بطرف خيط من شبكة خيوط أمل (موريتانيا) كان يتوهم أنها متشكلة حوله، فلم يكد يمد يده ليتحسسها حتى وجدها خيوطا عنكبوتية... فالطالب في الجامعة أو المدرسة لم يعد سوى فأر تجارب لمدى خبرة الشرطي في استعمال آخر ما رمى به شنآن الغرب من آلات القمع..
والمواطن أصبح كمفترش الرمضاء، لا يتوجه صوب قطاع من قطاعات الدولة يبتغي حاجته إلا بدا كصاحب حاجة في حقل ألغام كلما خطا خطوة توهم لغما أو وضع قدمه عليه فانفجر به! فالمرضى حملوا عصا الترحال بغية العلاج في الخارج خوفا من سقم على سقم أو هكذا يظنون قطاع صحتهم. التعليم ليس من الأولويات الراهنة مادام صفة الشرطي أحق وأهم "عند فخامته" من بطاقة الطالب في دخول الجامعة... كما أنه ما لم تكتشف الحكومة وسيلة لحماية أفكار فخامته من السرقة "التعليم لا يتماشى مع متطلبات العصر" لن يستطيع فخامته تطبيق أفكاره لأنها مسروقة! إلا أنه سيشهد تحولا تاريخيا في نقص مجالاته "كالقضاء على الشعب الأدبية كما تعهد فخامته" هذا في الوقت الذي نعتبر أنفسنا جزءا من عالم يجعل من كل شيء فنا يتعلم....
وأصحاب السيارات يطاردهم - كما المواطنون الآخرون - شبح الزيادات الروتينية في سعر الوقود وكافة البضائع..
والوضع الاجتماعي استحال رونق براءته إلى قصص يتخيل سامعها أن العاصمة نواكشوط أصبحت تقع جغرافيا في آمريكا اللاتينية: شاب يضرب فتاة بمسدس كان يحمله معه... رجل يقتل زوجته على اثر مسلسل... شاب يرمي بنفسه من سطح أحد الفنادق.. إلى آخر تلك القصص التي أصبحت مادة دسمة للجرائد اليومية..
الاعلام الرسمي سرعان ما تجرد من ثوبه الذي زعمنا أنه لبسه ليعود إلى الثوب المنسوج "من رداءة الإخراج وسذاجة المادة المقدمة" والمطرز "بتمجيد الحاكم وتنزيه الحكومة".... أما الإعلام الحر فقد قطع فيه "جهيزتهم" قول كل خطيب حين تحدث قائلا: "الصحافة دائما في وضعية سيئة وسياراتها متعطلة". يا جهيزة ألم تسمع: وإذا المؤودة سئلت بأي ذنب قتلت؟
ياسيدي - رحمك الله - أطلت عليك في أخبار الحي ولكنه ربعكم الذي طالما سعيتم من أجله فلم أشأ أن أخفي عنكم شيئا من حاله فإنه بخلاصة القول يعيش هذه الأيام ضبابية... سماء غائمة، وأرض ملغومة، ولسان حال القوم اليوم يقول: رحمك الله، ورحم الحجاج ما أعدله! ولكن ياسيدي إن لكم في الربع شبابا (شباب25فبراير) قد رضعوا من الثدي التي رضعتم منها، وشربوا من الكأس التي شربتم منها، وإنهم ليعلمون أن الليل لا يدوم، وأن حبل الكذب قصير، وأن الزبد يذهب جفاء، وأوراق الخريف تتساقط فتذهب أدراج الرياح، وهم - رغم ظلمات المكان - يرون في السقف ثقبا يتسرب منه شعاع من نور، سيعملون جاهدين ليجعلوا منه مصباحا بل شمسا تنير المكان وتبدد الظلام إلى غير رجعة... سيعلنونها شمسا في وجه ظلام الجهل..ظلام التخلف...ظلام العنصرية...ظلام العسكرية التي تفضل ردهات القصر على ثغور الدفاع عن الوطن... وفي وجه كل سدفة ظلام تشكلت في الطريق!
سيدي إلى وقفة أخرى تكون مليئة بالفرح والازدهار بعد أن يغير الله الحال، سأحكي لكم فيها "على مهلي"... إلى ذلك الوقت: نم قرير العين، وطب نفسا، فالله يجازيك ورفاقك خير الجزاء...