أظهرت عمليات " الإلتحام " الأخيرة كما قال مسؤول كبير في الجمهورية أو ما وصفه ب" انفلات أمني بسيط" ، ضرورة التأمل من جديد ومراجعة المنظومة الشاملة لهذه المؤسسات العقابية إلهشة المسماة السجون عموما في بلادنا وخصوصا في العاصمة نواكشوط
لقد كانت "ثورة الجمعة "الماضية رسالة واضحة من داخل هذه العنابر المنسية بخطورة الوضعية الحقيقية من داخل هذه الأسوار ،التي أصبحت ترمي بشرر كالنار في ظل ترهل وروتينية المنظومة القانونية ،وتدافع الأخطاء والمسؤوليات داخل بعض القطاعات المعنية بهذه السجون ،التي أصبحت مقرا لتجميع الموقوفين مهما كانت الجرائم أو التهم الموجهة إليهم : قتلة وإرهابيون رجال أعمال ،مختلسو أموال عمومية ، لصوص وقطاع طرق الخ، وفي وسط العاصمة وقلبها النابض على حافة أكبر شوارع الجمهورية شارع جمال عبد الناصر ، وكأننا في مسرح عام تابعنا على خشبته فصول مسرحية مثيرة ، فيها التحام وانفلات وكر وفر وإقدام وإحجام ، وحرب ضروس بما تيسر من أسلحة الحصار الشامل
من غير المناسب في تصوري خاصة على ضوء ما حدث من مواجهات عنيفة ، أن يظل السجن المدني في مكانه الحالي بوسط العاصمة ، فهو ليس معلما حضاريا نفاخر به الأمم والشعوب ، كما أن موقعه الحساس بين منشآت استيراتيجية وأسواق وبنوك ومدارس أطفال ،لا يوحي بنظرة استشرافية أو استباقية لمآلات الإنفلات الأمني البسيط أو المحيط
وسط المدينة لا ينبغي أن يكون للسجون بل للمسارح والفنون ، للمكتبات والحدائق والصناعات التقليدية والحرفية ، وفضاءات السينما والموسيقى وتلك الشؤون ، هذه هي المؤسسات الإصلاحية الحقيقية التي تهذب النفوس وتبعد عنها هوس الجريمة والإرهاب وسوء الطالع في الليالي غير المقمرة وقد أزم القوم الرحيل!
وإني لأعجب كيف لا ترحل هذه المنشأة عن الحي القديم بنواكشوط حي الإستقلال ، بعيدا في أطراف المدينة خارج وسط نواكشوط ، في بيئة جديدة مناسبة لها ، تمكن المسؤولين عنها من ضبط ونجاح المنظومة الأمنية المتعلقة بها ، من صادر ووارد ، بعد أن تحولت من الداخل إلى " غرف تحرير للأخبار" مرتبطة في الخارج بمختلف وسائل الإعلام عبر شبكتي الهاتف والأنترنت في وضح النهار ؟ وعلى مرأى ومسمع من الجميع ، ترسل من خلالها الصور الخاصة للرهائن من حراس السجن ، عبر مواقع التواصل الإجتماعي وكأنها مدينة جديدة للإعلام في نواكشوط ، يمكن تدريب الصحفيين الجدد في داخلها على هذه المهارات المختلفة، وليست سجنا حقيقيا في عاصمة البلاد ، يضم سجناء خطرين يتحدثون على " المباشر" في نشرات الأخبار الرئيسية فمن المسؤول ، أم أن الكل بريئ والمتهمون فقط في هذا السجن الكئيب
أعتقد أنه من الضروري إصلاح الأوضاع بشكل جذري في هذه السجون المنسية عندنا ، أو تحويلها الى محميات طبيعية للحمام الزاجل لأن الطيور على أشكالها تقع ، ووجود السجن المركزي في هذا المكان بقلب العاصمة نواكشوط مجاورا للمسجد العتيق ، أول مسجد أسس على التقوى في هذه البلاد إبان الإستقلال ، ليس رافعة حقيقية لقيمنا الثقافية وذاكرتنا الوطنية المشتركة ، وإن المرء ليعجب كثيرا كيف تم نقل ألاف المواطنين إلى أحياء الترحيل الجديدة في أطراف نواكشوط ، وكيف تم ترحيل هيئات وإنشاء أخرى خارج وسط العاصمة وبعيدا منه ، مثل المركب الجامعي الجديد والمطار الجديد ، وكيف تم التفكير في هدم ونقل السوق المركزية بالعاصمة ، وهي فئة من المؤسسات ذات ارتباط وثيق بالحياة اليومية للكثير من المواطنين ، وفي ذلك توجه قد يكون هاما لا ضير فيه بطبيعة الحال ، ولكن لا يتم في نفس الوقت أو قبله وبعده نقل هذه السجون المكتظة من وسط المدينة ، وداخل مقاطعات كبيرة منها ، لتكون في مواقع آمنة واستراتيجية وفق خطة محكمة ومدروسة قبل فوات الأوان ، في زمن الإلتحام المفاجئ وعدم الجاهزية أحيانا لمن يهمه الأمر!
المقاربة الأمنية البحتة وحدها لا تكفي في احتواء تداعيات شارع السجون في نواكشوط ، بل لابد من تطوير آليات مصاحبة لمراكز البحوث والدراسات المتخصصة في الجريمة والإرهاب وقضايا المؤسسات العقابية ، وهو ما يستدعي عاجلا الإستفادة من خبرات الباحثين والمختصين في علم النفس وعلم الإجتماع والإعلام والصحافة والتربية والتوجيه الإسلامي ، لمواكبة وترشيد المسارات المختلفة المرتبطة بمعالجة هذه الظاهرة من قريب أو بعيد ، وإيجاد قاعدة بيانات الكترونية وإحصائية وبنك معلومات شامل ، لمواكبة هذا القطاع على أن يتعزز ذلك أيضاً بالإشراك الفعلي والميداني لجمعيات حقوق الإنسان وهيئات المجتمع المدني المهتمة في الميدان ، لأن السجن لا ينبغي أن يتحول الى مقبرة للمواطن واغتيال لأمله في الحرية والحياة الكريمة ، وإنما محطة عابرة لإصلاح الفرد وإعادة صيانة قيم المجتمع في فكره وسلوكه من جديد ، كي يصبح متفائلا مصلحا لا مفسدا محبطا بعد طول سنين
إن السجون إما أن تصبح لأصحابها شعلة نور وأمل في الحياة ، أو أن تغدو بالنسبة لهم كهف شرور وظلمات ، تزرع في نفوسهم الإحباط واليأس وروح التمرد على الدولة والمجتمع ، وهو ما لا ينبغي أولا في ظل العدالة والقانون ، وثانيا لكل من يريد استشراف رؤية أفضل لمجتمع السلم والمعرفة لا الجنون!!
وأخيرا اسمحوا لي في النهاية أن أقول لكم إني لأجد " ريحا أخرى" خلف ما حدث كله يوم الجمعة لولا أن تكذبوني!!!