لقد قدمتُ في قراءتي الأولى لما بات يعرف بوثيقة الوزير الأول للحوار مجموعة من الملاحظات السريعة عن عدد من النقاط الواردة في هذه الوثيقة، ولكن في هذه القراءة الثانية للوثيقة فإني لن أتوقف إلا عند نقطة واحدة من نقاط هذه الوثيقة، وهي نقطة يبدو أنها تخفي وراءها الكثير من الأسرار والألغاز.
لقد وردت في هذه الوثيقة، وتحديدا في نقطتها العاشرة، جملة من خمس كلمات، من خمس كلمات فقط، ولكن تلك الكلمات الخمس كانت كافية لأن تربك طائفة من أهل السياسة في بلادنا، ولأن تحير طائفة ثانية، ولأن تصيب طائفة ثالثة بصدمة كبيرة، ويمكنكم أن توزعوا طوائف الناس الثلاث هذه على المنتدى والمعاهدة والموالاة. إن في هذه الكلمات الخمس كلمة السر أو الكلمة المفتاح التي يمكن من خلالها الإجابة على كثير من الأسئلة الحائرة التي يطرحها المتابعون للشأن العام دون أن يجدوا لها إجابة.
تقول هذه الكلمات الخمس التي وردت في النقطة العاشرة من وثيقة الوزير الأول بأن الحكومة على استعداد لنقاش بند يتعلق ب"تنظيم انتخابات رئاسية سابقة لأوانها".
ويقول الناطق الرسمي باسم هذه الحكومة في مؤتمره الصحفي الأخير بأن الانتخابات الرئاسية المبكرة، والتي وصفها بأنها هي "سنام" ما في الوثيقة من نقاط، وقد صدق في وصفه ذاك، بأنها قد جاءت استجابة لمطالب المعارضة، وبشقيها المقاطع والمحاور.
ولكن هل حقا أن المعارضة الموريتانية وبشقيها المقاطع أو المحاور كانت قد طالبت في أي يوم من الأيام بانتخابات رئاسية مبكرة؟
يمكنني أن أجيبكم وبكل اطمئنان ب"لا" طويلة وعريضة، وأكتب بعد ذلك "حفظ الله موريتانيا" لأختم بها هذا المقال، ويمكنني أيضا أن أجيبكم ب"لا" أخرى، ولكن بالصيغة التالية:
فيما يخص كتلة المعاهدة، فإن الانتخابات الرئاسية المبكرة لم تكن في أي يوم من الأيام من بين مطالبها. ومن المعروف بأن هذه الكتلة كانت قد أوكلت أمرها إلى الرئيس "مسعود" وإلى مبادرته، ومن المعلوم لدى الجميع بأن مبادرة الرئيس "مسعود" لم تتطرق لأي انتخابات رئاسية مبكرة، بل على العكس من ذلك فإن كل ما جاء في المبادرة من نقاط يوحي بأن مبادرة "مسعود" لا ترغب في أي انتخابات رئاسية من قبل أن يكمل الرئيس "عزيز" مأموريته الثانية.
إن ما طالبت به مبادرة "مسعود" هو أن يتعهد الرئيس "عزيز" علنا بعدم تغيير عدد المأموريات، وبأن لا يترشح لمأمورية ثالثة، وبأن لا يحاول أن يفرض من سيخلفه في رئاسة البلد، فأين هي المطالبة بانتخابات رئاسية مبكرة في مبادرة "مسعود"؟
لقد حددت وثيقة "مسعود" أربع مراحل لحوارها الذي تقترح، وقد خُتمت الوثيقة بضرورة انطلاق ورشات عمل لتنظيم وتنفيذ الاتفاقيات، على أن تنهي أعمالها قبل انتهاء المأمورية الحالية للرئيس "محمد ولد عبد العزيز" لكي يتسنى التحضير للانتخابات اللاحقة. ألا يعني هذا بأن مبادرة "مسعود" ترغب في أن يكمل الرئيس "عزيز" مأموريته الثانية؟ وإذا ما أردتم دليلا إضافيا على أن الرئيس "مسعود" لم يطالب بانتخابات رئاسية سابقة لأوانها، فإليكم هذا الدليل. إن الانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها تعني بداهة بأن تنظم انتخابات رئاسية قبل أوانها، أي أن تنظم على أبعد تقدير في العام 2018، وهو العام الرابع من المأمورية الثانية للرئيس "عزيز"، فلا معنى لانتخابات رئاسية سابقة لأوانها تنظم في العام الأخير من مأمورية الرئيس، فلو أن الرئيس "مسعود" كان قد طالب بانتخابات رئاسية سابقة لأوانها، لما احتاج لأن يخصص بندا من مبادرته للمطالبة بتعديل الدستور لتعديل السن القصوى للترشح للرئاسة. إن الرئيس "مسعود" الذي ولد سنة 1943 سيكون بإمكانه أن يترشح للرئاسة دون الحاجة لأي تعديل دستوري، في أي انتخابات رئاسية مبكرة تنظم قبل العام 2018، ولا يمكن أن نتحدث عن انتخابات رئاسية مبكرة إذا ما كانت ستنظم بعد العام 2018، أي ما دامت ستنظم في الموعد المحدد لها أصلا. فإذا كان الرئيس "مسعود" قد طالب بانتخابات رئاسية سابقة لأوانها، فلماذا طالب في نفس الوقت بتعديل الدستور لرفع سن الترشح، خاصة وأنه كان في غنى عن هذا المطلب البائس، والذي لاشك بأنه سيؤثر على مصداقية الرجل، وسيظهره للشعب الموريتاني وكأنه لا يبحث بمبادراته إلا عن مصالح شخصية ضيقة، حتى وإن كان ثمنها تعديل الدستور الموريتاني. يبقى أن أشير في الأخير إلى أن وثيقة الرئيس "مسعود" كان قد تم إصدارها يوم 7 يناير 2015، ولذلك فهي تتضمن آخر أفكار الرئيس "مسعود"، وآخر مقترحاته، فلماذا غاب عنها المطلب المتعلق بانتخابات رئاسية مبكرة، وظهر فيها المطلب المتعلق بتعديل الدستور لرفع السن القصوى للترشح للرئاسة؟ نفس الكلام يمكن أن نقوله عن المنتدى الوطني للديمقراطية والوحدة، والذي لم يطالب يوما، لا في السر ولا في العلن بانتخابات رئاسية مبكرة، وذلك رغم عدم اعترافه بانتخابات 21 يونيو الرئاسية، فالنقاشات داخل المنتدى ظلت مقتصرة على ضرورة تنظيم انتخابات تشريعية وبلدية مبكرة، فمن أين جاءت المطالبة بانتخابات رئاسية مبكرة؟ في اعتقادي بأني لست بحاجة لأن أقول لكم بأن المطالبة بانتخابات رئاسية مبكرة لم تأت كذلك من الموالاة الداعمة للرئيس "عزيز"، فهذه الموالاة لا تزال إلى الآن تحت وقع الصدمة من تخصيص بند في وثيقة الوزير الأول للانتخابات الرئاسية المبكرة. كما أني لست بحاجة لأن أقول لكم بأن موالاة الرئيس "عزيز" كانت هي آخر من علم بهذه الوثيقة، فقيادات الصف الأول في الحزب الحاكم لم تعلم بهذه الوثيقة إلا عن طريق الانترنت، تماما كما علم بها أي مراهق في أي مدينة موريتانية يملك هاتفا مزودا بخدمة الانترنت. فمن أين جاءت إذاً فكرة المطالبة بانتخابات رئاسية مبكرة؟ إليكم جوابي على هذا السؤال: لقد جاءت هذه المطالبة من عند الرئيس "عزيز"!! ولكن، لماذا يعلن الرئيس "عزيز" عن موافقته على انتخابات رئاسية مبكرة لم يطلبها منه أي أحد؟ هذا سؤال لا يمكنني أن أجازف بتقديم إجابة محددة له، ومع ذلك فإن هناك احتمالين في غاية التناقض، أحدهما ضعيف جدا، والثاني قوي جدا، سأقدمهما لكم كإجابة مؤقتة على هذا السؤال في انتظار قراءة أخرى للوثيقة تؤكد أو تنفي هذه الإجابة.
الاحتمال الأضعف: أن يكون الرئيس "عزيز" قد أصبح يفكر بشكل جدي في التخلي طواعية عن الرئاسة، وفي البحث عن طريق آمن للخروج منها، حتى ومن قبل أن يكمل مأموريته الثانية، ولذلك فقد قرر أن يدعو إلى انتخابات رئاسية مبكرة.
وقد تكون الوضعية الصحية للرئيس هي التي دفعته إلى ذلك، وقد يكون وعيه بحجم المخاطر التي أصبحت تحيط به هو ما أجبره على ذلك، خاصة وأن البلاد مقبلة على وضعية اقتصادية صعبة، تظللها أزمة سياسية واجتماعية مقلقة، ويرافق كل ذلك تراجع ملحوظ في مكانة الرجل لدى الحكومات والدوائر الغربية.
الاحتمال الأقوى : وهو أن يكون الرئيس "عزيز" قد بدأ يفكر في أساليب أخرى لضمان مأمورية ثالثة، وهي المأمورية التي أصبح من الصعب جدا أن يتم تعديل الدستور لضمانها، فما حدث في "بوركينافاسو" بعد محاولة تعديل دستورها لم يكن مجرد حادث عابر يمكن للرئيس "عزيز" أن ينساه.
إن الدعوة لانتخابات رئاسية مبكرة قد تكون هي الطريق الأذكى والأمثل لضمان مأمورية ثالثة، حتى وإن كانت مأمورية لن تصل إلى خمس سنوات. فأن يدعو الرئيس لانتخابات رئاسية مبكرة فهذا سيضمن له فترة إضافية قد تصل إلى ثلاث سنوات أو على الأقل إلى سنتين، فالموافقة على الانتخابات الرئاسية المبكرة ستمكن الرئيس "عزيز" من أن يربح ما مضى من مأموريته الثانية من قبل اتفاق الأطراف السياسية، كما سيضمن له الفترة اللازمة لتطبيق بنود ذلك الاتفاق، وهي فترة لن تقل عن سنة على أقل تقدير، وبهذا يكون الرئيس "عزيز" قد ربح مأمورية ثالثة دون أن يًعَدِّل الدستور، حتى وإن كانت مأمورية غير مكتملة لا تتجاوز السنتين أو الثلاث السنوات.
ومهما تكن الأسباب التي دفعت الرئيس "عزيز" لأن يدعو من تلقاء نفسه إلى انتخابات رئاسية مبكرة دون أن يطلبها منه أي أحد، فإنه على المعارضة الموريتانية أن لا ترفض الحوار، فإن كان الاحتمال الأول هو الدافع إلى ذلك فإن القبول بالحوار سيكون أولى، وإن كان الاحتمال الثاني هو ما دفع الرئيس "عزيز" إلى الإعلان عن انتخابات رئاسية مبكرة، فإنه على المعارضة أن تقبل أيضا بالحوار، ولكن مع الوقوف بحزم دون حصول الرئيس "عزيز" على فترة رئاسية إضافية، ولقد قدمتُ في قراءتي الأولى لوثيقة الوزير الأول بعض الأفكار التي قد تساهم في تحقيق ذلك.