عرفت محمد ولد عبدي من خلال الإذاعة الوطنية الموريتانية أيام كنت طالبا أحضر لبكالوريا الآداب العصرية العربية وكنت وقتها حائرا بين الاتجاه تحو الدراسات القانونية أو الاقتصادية ... وكان آخر ما أفكر فيه هو التخصص في الدراسات النقدية والأدبية. كان محمد ولد عبدي أواخر الثمانينات شابا متدفق الحيوية، حصل لتوه على الجزء الأول من الدراسات العليا في المغرب بعد مسيرة موفقة ومظفرة في الدراسات الجامعية بنواكشوط. وكان يقدم برنامجا عن الأدب الموريتاني لم أعد أذكر اسمه بدقة، وأظنه كان يذاع في عطلة الأسبوع، وكنا ننتظره بفارغ الصبر، مجموعة من الشباب تجمعنا هواية حب الأدب وكتابة الإبداع شعرا ونثرا. كان محمد ولد عبدي صوتا إبداعيا ونقديا نشازا في ساحة أدبية نمطية تأسست منذ سنوات وانتظم حالها مع استثناءات محدودة على قدر كبير من الزبونية،وتحكمت فيهالوبيات تتاجر في أغلبها بالإبداع، ولا ترى للنقد طريقا نبيلا أو هدفا ساميا أو غاية إنسانية. وتتصارع في هذه الساحة مجموعات مغلقة على نفسها تتقاسم بينها الأدوار الهزيلة، وتتصارع على فتات التملق وغسيل بيع الكلام احترازا من أن نقول الإبداع. وشعر محمد بن عبدي ، كما شعر قلة من المبدعين المخلصين بالغربة وآثر بعضهم البقاء في جمر المعاناة والإقصاء والتهميش ، ولم يتحمل محمد ولد عبدي كما لم يتحمل بعض أبناء جيله البقاء في هذا المناخ الخانق الطارد ، آثر الرحيل ــ حتى لا نقول الهجرة ــ إلى بلاد الأشقاء في شواطئ الخليج ملقيا عصا الترحال في أبي ظبي عروس الخليج ودرة الصحراء التي كانت آنذاك ــ وما تزال ــ مثابة لعدد كبير من مثقفي وشعراء وكتاب العرب الذين ضاقت بهم بلدانهم على سعة مساحتها وترامي أطرافها ... وجد هؤلاء في واحات العين الساحرة ، وأمواج شواطئ أبي ظبي الحميمة وغيرها من جواهر الإمارات الرائعة الدافئة حوافز للإبداع في هدوء وتواضع ونبل ، ووجدوا أكثر في إنسانها العربي ، مواطنا كان أو وافدا ، شقيقا أصيلا ، ومستمعا صادقا ، ومتلقيا متفاعلا . كنت أتابع أخبار ولد عبدي في الإمارات ونجاحاته في الشعر وخاصة بعد نشر دواوينه، وكنت أتساءل بإلحاح أين محمد ولد عبدي الناقد. وفاتحته بذلك عند ما سلمته نسخة من أطروحتي عن ((الشعر العربي الحديث في موريتانيا 1960-1995))وكانت أول أطروحة تتمحض لدراسة الشعر الحديث في البلاد، وتبعتها بحمد الله أطروحات كثيرة قيمة لأصدقاء آخرين سيكون ولد عبدي على رأسهم ، لأن مشروعه لدراسة الشعر الموريتاني كان يسكنه ويعيشه منذ سنوات ، حتى قبل استقراره في بلاد الأشقاء حتى لا نقول مهجره ، لأنه لا غربة في بلاد العرب . احتضنت قهوة بأبي ظبي لقاءنا وكان ذلك في أواخر عام 1996.كان بالنسبة لي واحدا من أهم نقاط جدول أعمالي كما يقول الساسة في زيارتي لعاصمة العرب العرباء ومدينة الشيخ زايد رحمه الله وكان وقتها لايزال على قيد الحياة يقدم لقادة العرب نصائحه حيث لا يسمعون ، ويساعد شعوبهم ما وسعته المساعدة الصادقة ، وحكامهم في طغيانهم يعمهون . أخبرني محمد ولد عبدي ــ أثناء الجلسة القصيرة نسبيا : فقد كان وقت السفر إلى صحراء شنقيط قد أزف ــ بمشوعاته النقدية وطمأنني أن الشعر لم يستغرقه إلى درجة ينسيه فيها همه القديم وشقيق إبداعه التليد . لم يطل انتظاري كثيرا حتى جاءت مواقع الإنترنت بأنباء فوزه بجائزة الشارقة للإبداع ، ونشر كتابه (( ما بعد المليون شاعر )) وانتظرت الكتاب بشغف ، ولم يخب ظني .... كان الكتاب قراءة رائعة لخريطة الشعر الموريتاني منذ ما بعد (( المليون شاعر )) ، وكان التساؤل الأبرز في نظري هل تجاوز شعرنا إشكالية الكم نحو الكيف ، ولعل ذلك ما سعى الدكتور محمد ولد عبدي إلى مناقشته ضمن شجون كثيرة لن يتسع المجال هنا لعرضها . وكان الإنجاز الأكبر والأهم في نظري ، هو اقتحامه مجال النقد الثقافي الواسع الأكناف الوارف الظلال الكثير الشوك ، محاولا التوفيق بين إمكانياته الكبيرة ــ وإن بمقدار ــ وبين استراتيجيات وأدوات النقد الأدبي التقليدي ، مواصلا مشواره في التطبيق على الشعر الموريتاني المعاصر . وقد اختار لذلك مدونة جديدة تتسم بنوع من الخصوصية أملتها طبيعة المنهج المزدوج أو المركب ، والسعي نحو الشمولية من خلال انتقاء ذكي ومتوازن . إن الزمن هو الكفيل بالحكم على هذه التجربة الباهرة والمغامرة الخطرة ، ولكن سيذكر التاريخ أن أشخاصا قلائل في المنطقة العربية اقتحموا هذا المجال : وعلى رأسهم الناقد الكبير الدكتور عبد الله الغذامي والناقد المتميز الدكتور محمد ولد عبدي ، وإن اختلفت منطلقات ونتائج كل منهما ، دون أن نغفل اتفاقهما في قضايا عديدة . وبعد فلا تكفي هذه الإطلالة القصيرة السريعة للكتابة عن عالم ولد عبدي ، فضلا عن الوفاء بما نحمله له من عواطف الوفاء ومشاعر المحبة والتقدير ، رحم الله محمد ولد عبدي واسكنه فسيح جناته.