قال الأقدمون إن الخادم كانت تبعث لجمع الحطب ولسذاجتها عندما تجمع كومة وتعجز عن حملها لثقلها تزيد الكومة. بينما أعتقد أنا أن الخادم بفعلتها تلك ومن شدة الإرهاق تبتكر ذريعة لتجد من يحمل معها الحطب أو يساعدها على حمله. ونظامنا الحالي لعجزه أو إرهاقه زاد الكومة بسجن الحراطين دون أن يدرك أن آمريكا أم الديمقراطيات قد صنفت بالدولة العنصرية لأنها جلبت عبيدا في أعناقهم أغلال ومن خارج قارتها وتكونت دولتهم من عرقيات مختلفة وثقافات متعددة، ظلت تتنامى وتتعايش على أساس علاقات أقرب إلى علاقات الجوار من المواطنة، حيث لا يحكمها سوى القوانين التي سنها مشروعهم.
وبعد أكثر من قرن من ممارسة العبودية والميز العنصري وأشكال القمع، ظنوا أنهم تجاوزا المرحلة المظلمة بواسطة الديمقراطية وهاهم سنة 2014 يعودون إلى المربع الأول. ولم تسلم دولة غربية واحدة من ممارسة العنصرية في داخلها وعلى الشعوب التي استعمروها ويعانون جميعهم الآن من تصرفاتهم السابقة وثقافاتهم المختلة.
وفي نهاية الخمسينيات وبالذات خلال مؤتمر ألاك، طرحت مشكلة الهوية وتسمية الدولة وقد فضلت النخبة آنذاك بوعيها العميق من بين عدة اقتراحات "الجمهورية الإسلامية الموريتانية" بدلا من "الجمهورية العربية الموريتانية" أو"الجمهورية الإفريقية الموريتانية".
ومن الواضح أن عبارة "الموريتانية" هذه ليست من عندنا لأنها عبارة لاتينية لم يأت بها العرب ولا الزنوج وكانت من نصيب الفرنسيين ويعود اقتراحها إلى الفرنسيين سنة 1899م. ومُورْ هذه لو كانت تعني البيظان والمراد منها في تلك الفترة تسمية الدولة بالأغلبية القاطنة، لسميت بالجمهورية الإسلامية البيظانية.
ومهما يكن من أمر فإن المؤتمرين قرروا لتجاوز إكراهات المرحلة والعقبات أن تكون الهوية إسلامية قبل كل شيء؛ حيث لا هوية أقوى ولا أجمع منها. ومنذ ذلك التاريخ لم تطرح قضية الهوية إلا من طرف العرب أو الزنوج وعندما أقول العرب فإنني أعني "البيظان" بمفهومها الواسع، حيث لم يسجل التاريخ على حرطاني واحد تنكره لهويته البيظانية – الحسانية - العربية. كما لم يسجل التاريخ على حرطاني واحد أنه يرغب في استبدال الحسانية بلهجة أخرى ولا مديح الرسول صلى الله عليه وسلم بالغناء ولا الفضفاضة بالبانطالون. وعندما نسمع هذه الأيام على لسان بعضنا "دولة البيظان" فإنهم يعنون فقط السفهاء من بين الأغلبية، وعندما نسمعهم أيضا يكررون علماء النخاسة فإنهم يعنون من يشرع الإسترقاق والإستعباد بغير وجه حق ليس إلا.
ومن الملعوم أصلا أن الصبي يبكي لتأخذه أمه لا أن تضربه وتتجاهل آلامه التي تسببت في البكاء. ولا مانع أن يبطن في خطاب هؤلاء مد اليد للتحالف مع الشيطان إذا كان الشيطان سيحمل التغيير ولو بالتدمير؛ لكن في المقابل لا يجوز لأنظمة راشدة أن تترك منفذا للشيطان حتى يجد حلفاء من بين أبنائها.
لقد تعاقبت عدة تسميات على موريتانيا كان أولها "بلاد التكرور" ثم "بلاد شنقيط" ثم "دولة المرابطين" ثم "بلاد السيبه" ثم "مورَتانيا" بفتح الراء ثم "موريتانيا" بكسر الراء قبل أن تكون جمهورية. ويتضح جليا أن الحراطين وإن كانت جذورهم البعيدة زنجية لم يتعرضوا لقضية الهوية لكنهم تعرضوا لقضية العبودية وتعرض لها معهم بعض مثقفي البيظان وعلى رأسهم الحركة الوطنية الديمقراطية التي التأمت اليوم في حزب اتحاد قوى التقدم. ولما حاول الزنوج استعطاف الحراطين بالعرق واللون لم يستجيبوا لأنهم يعتزون بلغتهم وبثقافتهم وبانتمائهم وهم باقون على ذلك النهج تشبثا بأصالتهم العربية الإسلامية الراسخة. لكن عندما لم تعد الهوية ولا الثقافة ولا الانتماء أولوية وتصبح الأولوية لقمة العيش من أجل البقاء، فيصبح من الضروري أن نتقاسم ما في الإناء وإلا لن يقبل أحد بالموت جوعا وعطشا أمام مخازن غذاء وعيون جارية يعتبر أنه شريك فيها. لم تصنف موريتانيا على مر العصور بالدولة العنصرية لكنها نعتت في أكثر من مناسبة بالعبودية وشتان ما بين "العنصرية" و"العبودية"، فالعبودية ممارسة محسوسة وملموسة ويمكن استئصالها بوسائل مختلفة لكن العنصرية محسوسة وليست ملموسة ولا يمكن استئصالها، نظرا لكونها ممنهجة ومؤسسة على الكراهية الدفينة ويتوارثها الأجيال. وهنا أيضا لم يسجل على مثقف واحد من الحراطين نعته ولا تصنيفه للدولة أو المجتمع بالعنصرية، لكنه مع تمسكه بالهوية العربية ظل يطالب بخصوصيته الثقافية والحضارية وهي الثوابت التي تتصل بالذات مباشرة وينبغي احترامها والاعتراف بها لجزء منفصل بلونه وعدده له الحق في خصوصيته كما له الحق أيضا في نصيبه من الثروة بالقدر الذي يكفل له العيش الكريم.
ومن هنا يتضح للمتتبع للشأن الموريتاني ان مشكلة هذه الفئة ليست في العقيدة ولا الهوية ولا حتى في الإسترقاق الذي طال أسلافهم لكنها في مخلفات تلك الممارسات المدمرة والمزمنة، حيث لا يمكن للدولة أن تستمر متوازنة وعلى نهجها الحالي ما دامت قضية السلطة محسومة منذ الإستقلال وربما إلى الأبد والثروة والإدارة في يد واحدة؛ ذلك أن كل نظام يأتي ببطانته ويخلق رجال أعمال جدد لخدمته وخدمة سياساته. وكل نظام مات يرثه المقربون لا الأبناء والبنات لأنهم ليسوا في الحاجة لتدور الأيام وتنتهي حيث بدأت إلى درجة أن النظام اليوم إذا أراد التخفيف من وطأة الظاهرة وعين جل أعضاء الحكومة من الحراطين لن يغير ذلك شيء لأن الحرطاني من قبيلة لها رجال أعمال في شتى المجالات وميزانية الوزارة تصرف في المغتنيات وتنفيذ المشاريع ورواتب العمال وليس لديه من بين شريحته من تخوله المعايير الاستفادة إلا من جيب الوزير الذي عادة ما يسد الباب بعد تعيينه بأسبوع.
وليس الحل أيضا في التلويح بالوحدة الوطنية وضرورة التعايش السلمي لأن الحلقة المفقودة هي أننا لم نتفق أصلا على أن تملؤوا بطونكم وجيوبكم من مالنا المشترك وتتركوا بطوننا وجيوبنا خاوية . كما لم يعد الحل أيضا في التلويح بالقوة والقهر والقمع في عالم أصبح قرية واحدة كل شبر منها ملغوم ومفخخ.
لقد خلق النظام الحالي والأنظمة المتعاقبة رجال أعمال من العدم وكان بوسعيهم إدراج من بين هؤلاء رجال أعمال من الحراطين لأن الموضوع لا يتطلب أن تتوفر الدولة على علماء في الذرة ولا الفيزياء والرياضيات، لكن الإرادة السياسية لم تتوفر فقط وما دام الأمرُ كذلك فستظل هذه الشريحة من سيء إلى أسوأ وستبقى الإختلالات تتجذر حتى نصل إلى مستوى الكراهية وهو الأمر الذي سيعود بنا إلى بلاد السيبة في ظروف نسيجنا الإجتماعي يتفكك وعقيدتنا وهويتنا مستهدفتان. وقد يقول قائل أن النصائح التي أوجهها للنظام والنخبة من مجتمع البيظان مساج على المألوف لكنني أقول : لقد أعذر من أنذر. فعلى الدولة الموريتانية ابتداء من الآن إذا أرادت تفادي ظاهرة بيرام وبرامات بيض وسود أن تغير نهجها وتبادر للمصالحة مع الذات عبر :
1- إنشاء وكالات للتنمية على مستوى الولايات توزع عليها ميزانية الدولة في إطار اللامركزية وحسب كثافتها السكانية، كوسيلة لتوزيع الثروة بصفة عادلة حتى لا تحبس دوما في يد ثلة من الأفراد على حساب المجموعة الوطنية، ذلك أن السلطات الإدارية الجهوية والمحلية أدرى بأولوياتها في التنمية وفي تموقع "آدوابه" والتجمعات الفقيرة، والثروة الوطنية للجميع.
2- التكفل بالأرقاء إن وجدوا مع حمايتهم من الأسياد عبر منحهم تمويلات صغيرة تضمن لهم العيش والإستقلالية في المصير.
3- تحديد نسبة من النواب والشيوخ والعمد والمستشارين تضمن لهؤلاء التمثيل على قدر تواجدهم في الدوائر الإنتخابية؛ حيث يدرك الأعمى والغبي أن السياسة تمارس بالمال والحراطين جلهم فقراء.
4- إنشاء مصارف ومؤسسات يديرها الحراطين تسمح لهم بالولوج إلى تنفيذ المشاريع ومجال الأشغال العامة حتى يسايروا الركب ويستفيدوا كغيرهم من الثروة الوطنية.
5- منحهم قطع أرضية صالحة للزراعة في شمامة وفي مناطقهم الأصلية مع الدعم اللازم لضمان منتوج يكفل للمستغلين العيش الكريم.
6- إعطاؤهم عناية خاصة في المنح والتكوين والتوظيف حتى يطمئن الشباب التائه ويتأكد أن هناك دولة مستعدة لاحتضانه كجزء من مكون كامل غير منقوص.
وإذا كان الأمن والاستقرار مطلبان أساسيان للشعوب والأنظمة فإن الأمن يرتكز على الغذاء قبل كل شيء؛ حيث لا استقرار ولا أمن مع الظلم والجوع، كما لا وحدة ولا سلم اجتماعي في غياب العدالة والمساواة.
وعليه فإنني أجدد النداء لحركة الحر وميثاق لحراطين ونجدة العبيد وحركة إيرا وحركات الشباب المستقلة بالإضافة إلى الحقوقيين وقادة الرأي من المكونات الأخرى لوقفة سلمية جماهيرية يوم 01/01/2015 في جميع عواصم الولايات والمقاطعات والبلديات وهو يوم سيؤسس لدولة العدالة والمساواة من جديد. ونحن نعلم علم اليقين أن جسمنا مصاب ورب صراخ واحد من خير من أنين مستمر.
وفي الأخير أطالب جميع الأرقاء في الجمهورية الإسلامية الموريتانية أن يتوجهوا إلى مراكز الشرطة وألوية الدرك والسلطات الإدارية للتبليغ عن وضعياتهم الاسترقاقية إن وجدت والإتصال على الأرقام التالية :
46050326 – 22350326.
عمدة أوجفت السابق محمد المختار ولد احمين اعمر