لولا ما ثبت لديَّ من استمراء محمد ولد عبد العزيز مجالسة ضاربات الرمل وقارئات الكف لــَـما أوردتُ "رؤيا" هذا الشيخ الوقور الذي لا يزال حيا يرزق في إحدى حواضر جنوب موريتانيا.
ليس الشيخ الوقور كاهنا و لا ضاربا للرمل ولا قارئا للكف، لكنه، ذات خريف من سنة 2004، قال لبعض جلساءه : (( سيحدث انقلاب على معاوية...وسيترأس موريتانيا بعده رجل اسمه اعلي ولد محمد فال...و سوف يأتي بعده " ابـْجَاوي" لا يطيل المكث في الرئاسة... وسينقلب عليه رجل اسمه محمد ولد عبد العزيز...لن يكون حكمه طالع سعد على البلاد والعباد...وسيطيح به رائد اسمه............)).
و لو لم يتواتر الناس على زهد الشيخ الوقور وعزوفه عن السياسة لــَوسوس ليَ الشيطان أنه معارض حلم قبل الأوان برحيل ولد عبد العزيز، أو أنه ، ليلة حلمه، لم يبسمل قبل أن ياويَ إلى فراش النوم.
قد يأخذ محمد ولد عبد العزيز "رؤيا" الشيخ الزاهد على محمل الجد، و يعلن حالة استنفار قصوى في صفوف أصحاب الرتب الرباعية النجوم والخطوط ، لن يسـْـلم منها أي رائد بالفعل أو رائد في الإنتظار ( نقيب على لائحة الترقية)، و لربما يعمد عزيز إلى ترقية كل " الرواد أو الرائدين" إلى رتبة "مقدَّمين"، أو يلغي نهائيا رتبة رائد من النظام العسكري الموريتاني.
كل هذا وارد في سبيل بقاء عزيز في السلطة، فالرجل ليس له حظ في مطالعة سـِيَر العظماء و لا حتى من هم دون العظماء، ولم يسمع يوما أن هناك جنرالا (حقيقيا) اسمه شارل ديغول، صادفتْه في حياته السياسية ظروف مشابهة للتي تضغط منذ أسابيع على نظام ولد عبد العزيز ( والنسبية بالطبع محفوظة) كما تقول العبارة الفرنسية.
فلو استنطق عزيز التاريخ لعلِم أن فرنسا دخلت، في مايو 1968، واحدة من أكثر الأزمات السياسية حدة في تاريخها الحديث، كانت شرارتها الأولى تحركات طلابية، لم تلبث أن انضمت إليها مجموعات من الشغيلة والموظفين، فحوَّلت إقامة الجنرال ديغول في قصر الأليزي إلى جحيم لا يطاق.
وفي الساعات الأخيرة من نفس الشهر قرر الجنرال مغادرة قصره خلسة واستقل مروحية لملاقاة صديقه الوفي الجنرال (جاك ماسو) في مدينة (بادن بادن) الألمانية، ثم عاد في اليوم الموالي وحل البرلمان، فنظم أنصاره مظاهرة ضخمة مؤيدة له، لكنها لم تفلح في رأب الصدع بين الجنرال فارع الطول وشعبه الذي لم يعد يريده رئيسا للجمهورية الفرنسية الخامسة.
استمرت سكرات الموت السياسي للجنرال ديغول أشهرا بعد ذلك، قبل أن يقرر وضْع مصيره على محك استفتاء شعبي حول حزمة من الإصلاحات، قابلها الفرنسيون بالرفض، فاستقال الرجل من الحياة السياسية وانصرف لكتابة مذكراته.
قد يدفع أحد أنصارعزيز بالقول إن ديغول حكم فرنسا عشر سنوات ومل الفرنسيون حكمه، بينما لم تمض على حكم عزيز إلا عامان ونيف.
بــَـيْـدَ أن هذا الكلام مردود على قائله، لأنه ليس بين "الكثرة" و " القــِلة" إلا نزول البركة، وهي - في حالة ولد عبد العزيز- "نازلة" أزكمت الصديق قبل العدو، و سيتحدث عنها المؤرخون فيؤكدون أن عزيز يحكم أو يتحكم في مفاصل الدولة الموريتانية منذ تسع سنوات على الأقل، أي منذ أفشل – كما لا يفتأ يتبجح بذلك- أولى محاولات الإطاحة بولي نعمته معاوية ولد سيد أحمد الطايع، سنة 2003 .
فهل سيكون في درس ديغول الفرنسي عبرة لعزيز الموريتاني؟ أم أن صاحبنا سيفضل تهور الرائد المنقلب في "رؤيا" الشيخ الزاهد على شجاعة الجنرال العتيد في سجلات التاريخ المعاصر؟