يخيل إلي أحيانا أن أتباع الأستاذ محمد جميل ولد منصور، لم يدرجوا كثيرا على تعاليمه، و هذا أمر مؤسف خصوصا في الحركات التي تعتمد مفاهيم التقليد والطاعة في السياسة، لأن التقدم - بل و حتى المحافظة على الخبرات- لا يمكن أن يحدث بدون وعي بتجارب القادة وحكمهم. إن الأستاذ جميل منصور، مثله مثل العلامة المرحوم ولد عدود، كانا دوما من النافين عن اليسار الموريتاني التهمة التي ينطق بها أتباعه اليوم وهي أن الدين يستفزهم، و التي تم تخفيفها لاحقا إلى مجرد "توتر بين اليسار والدين".
المشكلة هي أنه حتى هذا التخفيف الأخير لا يُسعف كثيرا.. لم يتوقف الأستاذ جميل منصور عند نفي تهمة التحسس من التدين بل تحدث عن تدين اليسار الموريتاني وتدينه. والحيادية- على الأقل- في قضايا التكفير هي أمر رماه الشبان اللاحقون، عندما لم تعد مفيدة سياسيا مع ظهور استهلاكية سياسية أصولية، و إن بقيت مفيدة أخلاقيا. ورغم أن تهم السخرية "من العلماء و رموز المسلمين" التي توظف اليوم في السياسة من قِبل الأستاذ ولد منصور ضد خصمه هي توظيف وإقصاء ديني واضح، إلا أنه يُشهَدُ له أنه لم يكن تكفيريا، مع أنه كان يمكنه أن يكون كما يفعل الكثيرون في محيطه، و بسهولة هذه الأيام كما سنرى.
2-
المشكلة الأكبر هي أن جزءا من تجربة الاستاذ جميل منصور كان في اليسار، اليسار الذي يوصف هذه الأيام بـ"المتوتر مع الدين". في البداية كان في اليسار الإسلامي، بحسب أهم مؤرخ للفترة الأولى من تاريخ الحركة إلى حد الآن، المرحوم التجاني ولد محمد المكي. و حسب الكاتب فإن الأستاذ ولد منصور تخلى عن هذه الحركة اليسارية الاسلامية لاحقا.
ولكن هل يعلم الاسلاميون بهذه الحقائق التالية: أن الاسلاميين أمضوا أغلب عمرهم السياسي التنظيمي وهم منضوون في اليسار الوطني والأممي؟ كان الاسلاميون جسما منخرطا في "اتحاد القوى الديمقراطية" و"تكتل القوى الديمقراطية" الذي كان عضوا في الأممية الاشتراكية، أكبر جسم لأحزاب اليسار في العالم، منذ التسعينيات حتى ذلك الصباح الباكر من 2003 عندما فجأة بردت حرارة مقاعدهم في الحزب لصالح مقاعد في الحركة الهيدالية ثم حزب الشيخ ولد حرمة.
3-
يجب على الاسلاميين الشباب أولا معرفة ما هو اليسار الذي يتحدثون الآن عن صراعه مع الدين حتى لا يلفوا حبل المشنقة على رقابهم. الاسلاميون الشباب لا يعرفون عن اليسار غير معلومات باهتة ومجتزأة بحيث أنهم يربطونه بالاتحاد السوفياتي. انطباعات اختزالية عمرها سبعون عاما. و لم يسمعوا - كما يبدو- بالصراع التاريخي بين اليسار والاتحاد السوفياتي لم يسمعوا عنما يسمى باليسار الجديد، و هو جل اليسار حاليا، و لم يسمعوا عن المعارضة اليسارية للاتحاد السوفياتي و التي كان علمها تروتسكي، الذي قتله ستالين. لقد بدأت المعارضة اليسارية للاتحاد السوفياتي قبل مولد الاتحاد نفسه لأن الانقسام بين الاشتراكيين و الشيوعيين انقسام من القرن التاسع عشر بل إن الاشتراكية الأوروبية قوضت إمكانية شيوعية أوروبية ليس في التجربة الشهيرة في فايمار فحسب، بل و حتى في أميركا و أميركا الجنوبية. و حتى داخل الشيوعية، التي تبقى طيفا في أقصى اليسار، ولدت النسخة الشيوعية الأوروبية المعادية للبلشفية أو ما عرف بالشيوعية المجالسية. و لكن هذا لا يهم الآن.
ما يهم هو المنظور اليساري الموريتاني وعلاقته بالاتحاد السوفياتي. توجد بشكل عام ثلاثة أشكال يسارية في موريتانيا كلها معادية للنموذج السوفياتي. هنالك التروتسكية التي تنضوي فيها الجبهة الشعبية وكثير من الشباب المستقل وبعض الأكاديميين؛ هنالك اليسار الماوي الذي تحول مع الزمن إلى الحركات المتفرعة من يسار الـ1968 أو اليسار الجديد أو تلك التي أنشأت نسختها اليسارية المحلية، التي عرفت بالكدحة، المرتكزة على نمط تقدمي يعتمد مركزية الشرائح الزراعية واللامركزية والإصلاح الديمقراطي، ثم تحولت إلى الحركة الوطنية الديمقراطية ثم الآن وريثها الشرعي هو "اتحاد قوى التقدم". الاتجاه الثالث هو الاشتراكية الديمقراطية التي ينضوي فيها "تكتل القوى الديمقراطية"، عضو الأممية الاشتراكية، بل و اتحاد قوى التقدم نفسه الذين تحول في إطار تحوله إلى حزب وطني إلى اشتراكي كينزي، و في هذا الاتجاه أيضا حركة ضمير ومقاومة وحركة الديمقراطيين المستقلين، وغالبية اليسار الجامعي و بعض المثقفين المستقلين الروائيين والمؤرخين والاقتصاديين، الأخيرون أغلبهم كينزيون كالسيد أحمد ولد داداه، الذي يصف نفسه بالاشتراكي الديمقراطي، وكتب مقالات مهمة في نقد اقتصاد الليبرالية الاحتكارية. و عموما فكل هذه التصنيفات لا توجد إلا في إطارات سياسية متشعبة لا يمكن أدلجتها إلا من منظور اختزالي عامي.
على الاسلاميين أن يعرفوا أن اليسار هو طيف سياسي يتعلق بسياسات اقتصادية أساسا و بمواقف تتعلق بدور الدولة في تحقيق العدالة و المساواة أكثر مما تحقق الهوية أو الإنغلاق. هو يمتد عالميا من باراك أوباما إلى الحزب الشيوعي الصيني. و في موريتانيا هو غالبا يسار محافظ إصلاحي. إن نقاش هذه المسائل في ظل عدم معرفة "النُقّاد" لأبجدياتها يجعل النقاش تلقينيا أكثر مما هو حواري.
في المقابل يحوي اليمين الموريتاني تصنيفات سياسية أكثر محافظة اقتصاديا وسياسيا و اجتماعيا و تمتد من الحزب الجمهوري إلى حزب تواصل مرورا بالحركات العرقية و المجموعات الدينية السلطانية. هذه هي الطيفية السياسية إن كان لا بد من استخدامها كتعميمات حول أفكار الناس و تفتيشها كرد على انتقادهم تصرفا سياسيا.
4-
المشكلة اليوم هي أن الحركة الاسلامية ظلت لعهد قريب غير متمركزة في أقصى الطيف السياسي اليميني. وليس صحيحا أن حسن حنفي هو مؤسس اليسار الاسلامي فالاشتراكية الاسلامية تعود على الأقل لمصطفى السباعي، مؤسس الاخوان المسلمين بسوريا، بل و أن اليسار العربي و التيار الاسلامي صدرا من مشكاة الاصلاحية الدينية-العلمانية في القرن التاسع عشر من عبده و الأفغاني. وكانت تجربة السباعي و غيره تجربة اشتراكية دينية ولن يتحول الاخوان المسلمون إلى حركة ليبرالية يمينية إلا لاحقا و في إطار تحالفهم التاريخي مع المال الخليجي و نظام السوق، و أخير، الامبريالية، و بشكل درامي منذ "الربيع" العربي. على الاسلاميين الشباب الحذر من إطلاق تعميمات بخصوص الطيفية السياسية. الحركات الاسلامية التي تقع يسارا (داخل الحركة طبعا) كالنهضة و المُعتدلين الاخوان وما يعرف بالاسلام الأوروبي، الذي لا يعرف عنه إسلاميون كثر شيئا، تبقى قطعا أفضل سياسيا و اجتماعيا من الحركات التي تقع في يمين الحركة من المحاكم الاسلامية وطالبان و أبو سياف و أبو القعقاع و التكفير و الهجرة. و الحركة عموما تنتج تصورات مختلفة بحسب التموقع في هذه الطيفية. و فيما كان محمد عبده يقدم و حسن الترابي و الغنوشي و الريسوني مثلا، في يسار الحركة، يقدمون أحكاما بخصوص حكم الكافر لدولة مسلمة و الدولة المدنية و تاريخية الأحكام الجنائية و عدم الأخذ بتعدد الزوجات فإن يمين الحركة في موريتانيا أمثال الشيخ الددو و الشيخ أبواه يطالبان بوقف تمدرس الفتيات في سنوات معينة و التحفظ على قيادة الفتيات للسيارات و القول بتعدد الزوجات، رغم أن آخر ازدهار للقصة في موريتانيا ربما حدث في الفترة الإباضية قبل القرن التاسع. إذن هنالك تصورات مختلفة حسب الطيفية السياسية داخل الحركة. و كاتب هذه الاسطر لا يشتري ثنائية اليمين و اليسار المملة. هنالك يسار في اليمين وهنالك يمين في اليسار. هنالك أنصار الدولة المدنية في الاسلاميين و هنالك فيها أنصار دولة الشريعة. أحيانا يوجدان في نفس الحزب. و نفس الشيئ في اليسار. هنالك ليبراليون حايكيون متقنفذون في اليسار تماما كما هنالك من يعلن فجأة أنه أصبح كاينزيا في أوقات الأزمة. الأمر ديناميكي جدا؛ و ليس بنيويا. و ليس معنى هذا أن الأديولوجيا ماتت كما يقول دانييل بَل، ومؤخرا توني بلير، الذي هو نفسه دليل على تحول اليسار إلى يمين، كما ليس معناه أنه يمكن الوصول أبدا إلى حقائق وتصورات غير مؤدلجة. أبدا، معناه أن الحركات السياسية غير جمودية بطبعها.
5-
إن موضوع التكفير مهم. الحركات الدينية تعتمد التوظيف الديني للسياسة، وهذا تصور جذري في معظمها. في داخل الحركات المعتدلة هنالك تكفيريون. و الإشارة إلى هذا لا تعتبر صناعة هولوكوست، لسبب بسيط: المُكفرون ليسوا دوما أصدقاء و أحبة. العالم محمد ولد أبواه يعتبر أن الجنرال عزيز "عابَ أخلاق الإسلام" و "أدار ظهره للإسلام" و "يضحك من أخلاق الاسلام" و يسخر من اللحية التي هي "من أوصاف الأنبياء" (و كأن الجنرال عزيز سخر منه- في حالة إثبات هذه السخرية- لهذا السبب) قبل أن يقرر أن من يسخر من اللحية مرتد. و قد رفعت الحركة في مهرجانها الحاشد لافتة كبيرة بعنوان "لا للسخرية من أخلاق الاسلام". الشيخ محمد الحسن ولد الددو طالب تلميحا بالثورة على الجنرال لـ"تمكين الدين". و الاستاذ جميل منصور اعتبر بخصوص ديكتاتور موريتانيا أن " آخر علاته هزؤه بالعلماء ورموز المسلمين". إن كل هذه هي أحكام تكفيرية أوشبه تكفيرية. و بما أنه تتعلق غالبا بخصوم كاتب هذه الأسطر فإن الأمر ليس صناعة "هولوكست".
إن هنالك حركات و نخب إسلامية كثيرة معادية للتكفير، بل و تحتقر فلسفته، و لكن في المقابل لا تنبع أي أحكام تكفيرية من خارج الأحزاب الدينية أو المجموعات الإنغلاقية الصغيرة.
6-
إن السؤال عن موقفي من القضاء التدريجي للعبودية أمر مهم للدردشة. و لكن، و بما أنني بينت أنني لا أعتقد أن العبودية أمر إسلامي بل هي مما علق به من المجتمع الذي ولد فيه، فإن السؤال يبقى غير ملح.
يمكن الإجابة عليه رغم ذلك. لقد اعتقدَ محمد قطب، بتأويلية استدراكية، أن الخلاص من العبودية كان أمرا يتدرج عبر التاريخ. و هذا إيمان مهم ولكنه لم يتحقق تجريبيا لأن المجموعات الاستعبادية ظلت تستخدم الدين للتعبيد كما حدث في موريتانيا حيث قامت القبائل المسلحة و المتدينة بالمتاجرة في العبيد و اختطافهم لقرون طويلة. أما أنا فأقول أن البنية نفسها عالقة بنمط الانتاج. و ماكان لها أن تنقضي من داخل النظام الاقطاعي القديم، بل ما حدث هو العكس: ازدهرت العبودية حتى في اللحظات التي توقفت فيها الحروب و الفتوحات، التي ربطها محمد قطب بها. و الذي حدث هو ازدهار النخاسة مع ازدهار ما وصفه محمد أركون بالبرجوازية العربية العتيقة و الحركة التجارية القوافلية التي ازدهرت معها في العصرالعباسي.
إن بقاء العبودية كان أمرا سياسيا-إنتاجيا. بدل أن أنتظر الإلغاء التدريجي للعبودية بحتمية تاريخية لن تأتي فأنا مع تقويض البنية النخاسية-الانتاجية تماما و إلغاءها النهائي الفوري و دون تعويض للملاك- عكس ما حاول النظام الهيدالي أو النظام الانجليزي في قانون 1833 الشهير أن يفعل، بل و مع سجن الاستعباديين كما قررت موريتانيا في 2007، و مع الانفاق العام (و ليس بالضرورة أو بغيرها ما يسمى بالتمييز الإيجابي) و لسنوات طويلة بطريقة كينزية في برامج تأهيل العبيد و أبناء العبيد و إدماجهم في الحياة التجارية و التعلمية التي تمنع الوضعية العمالية والاستغلالية الكثيرين من التفرغ لها. و حتى في تاريخ الاسلام كان يمكن القضاء عليها دون انتظار التدرجية التاريخية التي لم تأت حتى جاءت الرأسمالية و ألغت العبودية لمنافعها الخاصة و بحثها عن الأسواق و استفادتها- في مرحلتها الأخيرة- من العمل المأجور بدل السّخرة و الاستعباد. إذا، العبودية من منظوري هي أمر لا علاقة له إلا بنمط الانتاج الذي يقوم بدوره باستخدام الدين لتكريس العبودية. والمثال على هذا في موريتانيا هم الفقهاء الكثيرون تاريخيا و حاضرا، و يوجد بعضهم في حزب تواصل.
إن من يجب أن يُسأل عن موقفه من العبودية هم من يقولون بإسلامية الاسترقاق و بأنه أمر من الإسلام كالعالم الاسلامي محمد ولد ابواه، أو الذين تسقط منهم غلطا - بالمعنى الذي سكه فرويد- معلومات بخصوص نشأة البنية العبودية في الإسلام وليس أنا. و أيضا يمكن أن يُسأل عنها من تتهمه الحركات الحقوقية بالاستعباد. لا يوجد الاستعباديون الفقهاء أو الملاك في بقية الأحزاب. و الاتحاد الشعبي طرد قياديا متهما بالاستعباد من حزبه. و في بقية الأحزاب لم يُعلن بعد عن استعباديين أو مكرسين للاستعباد.
4-
إن النقاشات الايتيمولوجية و المفاهيمية مهمة. و لكنها تحتاج تمرسا في القراءة في الحضارات المختلفة و إلا فإنها تتحول إلى استدلالات لغوية فارغة. مثلا، في الاسلام كلمة "دولة" و كلمة "عقل" و لكن الدولة بمفهومها الحديث و العقل بمفهومه الحديث ليس هو المتحدث عنه في تاريخ الاسلام. و نفس الشيئ فيما يتعلق بـ"الأحرار".
إن السؤال في هذه الحالة ليس التدليل على وجود كلمات "الأحرار" في ابن قدامة و أبو حيان و غيرهما، فحتما لمينكر الكاتب وجود الكلمة، بل أنكر وجود جسم مجتمعي سياسي-اجتماعي يسمى بـ"الأحرار" بشكل حاضر في الثقافة بنيويا و اجتماعيا. هل يشير المؤرخون الكبار أمثال ابن الأثير و ابن خلدون و ابن الجوزي وابن كثير مثلا إلى مجموعة سياسية فكرية وفلسفية مقابلة للعبيد تسمى الأحرار و موجودة مجتمعيا و تقوم بحركات سياسية و اجتماعية و موجودة في الثقافة و مكررة، مثلها مثل "الزنج" أو "الصقالبة" أو "الموالي" أو "المماليك" أو "العيارين" مثلا؟ الجواب لا طبعا. أبسط دارس لتاريخ الاسلام يعرف أن الأحرار- كمقابل للعبيد- لم يكن يُشار إليهم بصفة الحرية لأنها كانت ثانوية كصفة في موازاة صفات أخرى، شعوبية و جنوسية (ربما لأن العبودية لم تكن عبودية زراعية أو إنتاجية بقدر ما كانت خدمية. و هذا احتمال قابل للنقاش). و هذه ذكورية الاقطاعية، كما بينت سابقا. و هي تمييز حتما، و الأمر هنا وصفي و ليس تبن، كما تفعل القراءات السطحية. في المقابل ظهرت عناصر مجتمعية جديدة في التاريخ الغربي عرفت بالأحرار أي الليبراليين و لكن في حينه، أواخر القرن الثامن عشر و التاسع، كانت الحركة تعني كل الحركات الحداثية الحالة بيسارها ويمينها. إنهم أحرار ما سماه هابرماس بـ"المجال العام"، و لا علاقة للأمر بكونهم عبيدا أم لا، بل كونهم يتوقون للحرة و للعدالة. وتسللت هذه المفاهيم التحررية إلى الثقافة العربية فتمت ترجمة الليبرالية في القرن التاسع عشر إلى الأحرار. و أقدم الأحزاب العربية من "الوفد" إلى "الوطنيين الأحرار أتوا من هذه التقاليد.
عموما يبقى هذا عارضا ما دام المُنتقد لم يستخدم الكلمة بصفة تمييزية تمجيدية أو احتقارية. "إن كلمة "الأحرار" ليست كلمة تمييزية غالبا، كما يعتقد البعض، ما لم يتم التخصيص على هذه التمييزية". و في حالة عدم إثبات هذه التمييزية في كلامي سيضيع وقت كبير في الانشاء.
5
يجب أن نحرص على التمكن من المفاهيم التي نَرُدُّ عليها. إن الحديث عن غياب الإماء في سوريا هو حديث عن غياب الظاهرة ببنيوية و ليس كحالات استغلالية معروفة، وموجودة حتى في الولايات المتحدة وتتعلق بتجارة اللحم الأبيض و النخاسة الجنسية و العمل مقابل الجنس مثلا أو حالات مكتشفة هنا و هنالك من السخرة و غيرها من الأمور التي قدمت من البلدان الرأسمالية بما فيها – بل على رأسها- روسيا أو علقت من الماضي أو تعلقت بحالات استئسادية معينة. إن وجود إماء في سوريا بشكل انتهاكات مستوردة من رأسمالية البغاء لا يعني بنيوية الحرائر و الإماء، ولا يعني أن هنالك حالة استعباد اجتماعي كما هو موجود في موريتانيا.
6-
يمكن حل إشكالية بدر الدين بهذه الطريقة.
1-إذا كان الكاتب يعتقد أنها ليست حالة تمييزية فكيف يمكن لومه على أنه لم ينتقدها؟ لا يمكن أن نلوم الناس على أنهم لم يستخدموا فهمنا لقضية ما لنقدها من منظورهم الخاص.
2-الكاتب لا يرى أن استخدام حكمة إقطاعية هو حالة تمييزية. وهو يود هنا أن يراجع القراء أدبيات "اللباقة السياسية" التي ينطلق منها فهي توجد على الانترنت بكثرة. ما زالت الأمثال الطبقية تستخدم - حياديا- حتى الدول الديمقراطية حيث نسمع يوميا عن سقوط سياسي بسبب عدم لباقة سياسية. والكاتب نفسه أورد سابقا مثالا أن "ما على العبد إلا طاعة سيده" أو شيئ من هذا القبيل يصف حالة الحزب الحاكم والجنرال عزيز. التمييز هو عندما يتم توظيف المثل في متضرر حقيقي من العبودية. هذا النوع من الاستخدام الحكمي ليس تمييزا. التمييز هو تمجيد نسوة مناضلات بأنهن حرائر: يعني قيمتهن بسبب وضعيتهن الفضلى، و إلا لما تمت تحيتهن بأنهن حرائر. في هذه هنالك معني قيمي (يتعلق بالقيمة). في هذه الحالة الأمر وصفي. في الحالة الثانية هو استشهادي فقط.
وفي جميع الاحوال لا يمكن انتقاد الحالة الاستشهادية بأنها حالة تمييزية بدون قناعة بأنها حالة تمييزية. إن القناعات لا تُستورد. فشخصيا لا يمكنني مطالبتكم بإدانة استخدام التحية الجماهيرية باسم الحرائر لأنكم لا تعتبرونها خطأ و أنا أحترم قناعتكم. الأمر الشنيع ليس استنكار أن لا يقتنع الناس بشيئ ما بل مطالبتهم باتخاذ موقف سلبي منه حتى في حالة عدم الاقتناع به. هذا استعباد فكري.
إن المنطق الصوري منطق متجاوز و لكن يمكن البداية به على الأقل لبناء أفكار مستقيمة منطقيا، وهو شرط أي حوار. إن المنطق هو النحو بالنسبة للأفكار.
7-
كنتُ أود أن يُحترم لي ما قلته في شأن التعليم الديني لأنني وعدت بكتابته في مقال خاص عندما يتم تخطي الحالة الراهنة. و لكنني سأوضح نقاطه العامة، خصوصا أنه ورد في تبرير "توتر العلاقة بين اليسار والدين". ما قصدته هو التالي:
1—أنا ضد تفرقة التعليم الموريتاني بين فرنسي على حدة و عربي على حدة و محظري على حدة و تعليم خاص فرنسي (تابع لحكومة فرنسا أو مؤسساتها المدنية). و الحل عندي هو تربية جميع أبناء موريتانيا في تربية وطنية مشتركة إما بإدراج مواد، وخصوصا التربية المدنية و الثقافة الوطنية في التعليم المحظري أو بتطبيق إلزامية التعليم الابتدائي حتى على المحظريين، دون حذف التعليم المحظري في الأوقات الإضافية من أصله، كما تنص القوانين.
2-توسيع وسط الطبقة الوسطى بزيادة طلبة كليات التجارة و إدارة الأعمال و الكليات العلمية (وليس التكوين المهني كما تفترض ديماغوجيا الجنرال عزيز التي انتقدتها اقتصاديا)، و لكن بشكل أساسي زيادة فرص الأعمال الصغيرة، و القروض الصغيرة التي تسيؤها ربات الأسر، المتخرجات في مراكز إدارات الأعمال.
3- أنا مع مشروع أزهر موريتاني يركز على جودة التعليم الديني كيفيا حتى ينتج المعهد علماء وليس مجرد طلبة.
كما ترون فإن لا علاقة لهذا بالتوتر مع الدين. له علاقة ببناء ثقافة موحدة و بكيفية بناء رفاهية في المجتمع و تخريج اقتصاد رسمي و ليس اقتصاد السوق السوداء الذي تنتجه الكفاءات الكثيرة التي لا يمكن ترجتمها إلى استثمارات و أعمال مربحة. و أنا دوما مع محافظة موريتانيا على روحها الفكرية و الثقافية التي حافظت عليها لقرون بالتعليم الذاتي و ليس التعليم الديني من أجل أعمال لن تأتي.
7
تجربة الجيل القديم من اليساريين و القوميين الأوائل و الاسلاميين - و الأخيرون يُستخدمون الآن للأسف في التهييج ضد الإسلاميين اللاحقين- هي تجارب انبطاحية معروفة لها علاقة بسوسيولوجيا النخب و لا تلزم إلا أهلها و انتفاعاتهم. و لعل الأغلبية البارزة من الجيل الاسلامي انضمت كلها للنظام الطايعي ولاحقيه - و ربما بنسبة أكثر من أي حركة سياسية أخرى بالنسبة لعدد قيادييها في بواكير الحركة رغم أنها لم تبق متمكنة- رغم أن أغلبية الأجيال الأيديولوجية الأولى، يسارية و قومية، وجدت نفسها لاحقا في النظام. إن بقية اليسار الموريتاني هي أقدم المعارضات في البلاد. و لكن معارضتها أو انضمامها للسلطة يبقى أمرا يلزمها أو يلزم أحزابها الخاصة.
إنه في نفس الوقت الذي سيكون فيه ظلما أن يُنتقد إسلامي متحزب بأنه يتحمل تبعات انبطاح معظم الجيل الأول من الحركة الإسلامية فسيكون من الأسوأ انتقاد يساري غير متحزب بأنه يتحمل تبعات انبطاح كثير من الجيل الأول من يساريين لا يؤمن أصلا بيساريتهم و لا يؤمن أصلا بالوحدة السياسية لليسار. انظر ما كتبه في آخر مقال (تناقضات الدكتور عزيز). صحيح أن ما كتبته فيهم شذرات وليس مقالا مخصصا. ولكنه ينقل أفكارا. و تماما كما كان سنغور لا يتعلم الفرنسية من إداريي الأليزي فأنا أعرف كيف أكتب أفكاري. أكثرية الأحزاب التي انتقدتها من عدم انتقادها- وهذا أمر خارج ثنائية الحق أو الصح - كانت الأنظمة الحاكمة عادل، الحزب الجمهوري و حزب العصر و حزب التكتل وحزب الحراك الشبابي. و طبعا كانت كلها أكثر تقبلا واحتراما للنقد بما فيها الجنرال عزيز، صاحب السمعة السيئة في مجال الحرية.
أبو العباس أبرهام