دالية الولاتي بين إسداء الثناء وإحكام البناء
(ملاحظات في مستويات البلاغة والإبلاغ)
ونالتها أناملنا مؤخرا بفضل الله أولا، ثم بجهود زميلنا الأستاذ الفاضل حسني بن الفقيه الذي أمدنا مشكورا بنسخة مخطوطة من هذه المدحة المتميزة، فهي بالنسبة إلينا درة نحر وتحفة عصر.
وهذه القصيدة دالية متوسطة الطول تقع في عشرين من الأبيات وتنتظم في بحر الكامل، وتستوعب جانبا مهما من العلاقات الثقافية والسياسية التي ربطت مدينة "ولاته" بمنطقة فوته ودولتها.
وقد تحدث الولاتي ضمن هذا النص الشعري عن سعي الإمام المجاهد أحمد بن عمر الفوتي إلى مواصلة جهود والده في إرساء دعائم تلك الدولة.
وقد توطدت صلة الفقيه الولاتي بهذا الرجل فامتدحه بهذه الرائعة التي استعرضت في تضاعيفها وصفا دقيقا لجهاد هذا الرجل وجهوده، وذلك ما يمكن نستشفه خلال محاورتنا لهذه القصيدة انطلاقا من ثلاثة مستويات نوضحها تباعا فيما يأتي:
أ- ملمح إسداء الثناء:
ونقصد به الجانب المتعلق بمضمون هذا النص الذي ورد تنويها بهذا المجاهد، فتتبع جهوده في الفتح والجهاد، وسعيه إلى نشر المعارف والعلوم، وأثره البالغ في إشاعة العدل والقسط، ومنزلته المتميزة في الذب عن السنة ونصرة الدين، كل ذلك مع ما امتاز به من اليمن والسعد والقوة والبأس، وذلك ما ألمحت إليه القصيدة في مستوياتها المختلفة على نحو ما سيتضح في هذه السطور.
1- الاتصاف باليمن والسعد:
وذلك ما عبر عنه مطلع القصيدة تعبيرا واضحا، حيث وصف الممدوح باليمن والسعد في أسلوب بلاغي لطيف يعتمد الطباق بين اليمن والعدل والسعد والهلاك([1]).
ويركن إلى التصريع البديع الذي أكسب فاتحة النص كثيرا من التناغم والانسجام، فأحمد هذا مبارك ميمون يسعد الزمان بعهده ويفرح لطلعته، ويندم المقصر على أن تفوته صحبته حسب تعبير الولاتي، يقول([2]):
سعد الزمان بيمن طَلْعَةِ أحْمَد
وبعَدْله هلك البغاة ذوو الْيَد
ندِمَتْ بنو ماص الطغاة على الذي
قد فاتهم من فضل هذا السيد
ندموا عليه ولات ساعة مندم
إلا لعل وليت أو عضَّ اليد
2- التميز بالقوة والبأس:
وهاتان الصفتان من الصفات التي تلزم لقواد الدول وأرباب السلطة والحكم، لذلك صرح الولاتي في البيت الخامس من النص أن ممدوحه جلد حازم وصارم في قراراته، فقد رأى الحل الأمثل في إعمال القوة ومواجهة الخصم، وذلك ما عبرت عنه الأفعال المسندة إلى هذا الممدوح ضمن هذا المقطع (رأى، فسبى، لم يدع، حتى تركت...).
فلغة هذا المقطع كاشفة عن قوة الرجل وشدة بأسه، وذلك ما أوضحه الولاتي بقوله([3]):
طلبوا قبول التوب منه تخيلا
فنهاه نور حجى مضيء مُرْشِد
ورأى سباءهم وقتل رجالهم
هو الصوابَ وذاك رأي مسدد
فسبى الذراري والنساء ولم يدع
زرعا ولا ضرعا بذاك المشهد
حتى تركت بـ"يكمكور" سراتهم
ما بين مقتول وآخر موقد
3- الميل إلى الجهاد والفتح:
لقد أبان النص جانبا من توجهات الممدوح القائمة على نشر الدعوة وتوسيع رقعة الإسلام، فصرح أن مهمة ممدوحه تنحصر في فتح البلاد ومجاهدة الأعداء، وقد طغت على هذا الجانب من النص ألفاظ القاموس الحربي (فسبى الذراري، استؤصلت شفة الرجال، وصلت بقيتهم جحيما، فانقادت...) لذلك عجبوا لأمره واشرأبت نحوه الأعناق، وصار الناس في حيرة من أمره يسأل بعضهم بعضا عن شأن هذا المجاهد الذي أحيا الدين وأمات البدعة، وذلك ما أوضحه النص في الأبيات الآتية([4]):
أمست رقيقات نساؤهم على
رغم وملكهم كأن لم يعهد
استؤصلت شفة الرجال فلم يفت
إلا شديد لم يمت وكأن قد
وصلت بقيتهم جحيما مسعرا
من قبل تصلية الجحيم الموبد
وغدت ديارهم خرابا دثرا
مغنى الذئاب العاويات الصيد
فانقادت السودان تحت لوائه
والعرب في الأمر المقيم المقعد
يتساءلون وهم حيارى ولَّه
هل عندكم نبأ لهذا الصندد
والحال ينشدهم بقول مفصح
أودى الضلال وأهله في ملحد
من شاء فليؤمن ومن يك كافرا
فليعل في أفق السماء بمصعد
4- السعي إلى نشر المعارف والعلم:
لقد تعرض الولاتي في هذا النص إلى جهود هذا العمري في نشر العلم وإزالة الجهالة، مؤكدا أنه بلغ في ذلك مبلغا عاليا ونال درجة تسمو على منازل النجوم يقول([5]):
فكشفت ظلماء الجهالة عن سنا
فوق النجوم على دعائم وطد
5- إشاعة العدل والقسط:
ويفهم من النص أن الرجل أشاع بين الناس العدل وأقام القسط، ويتضح ذلك من وصف الولاتي له بالمصدر "العدل" وفي هذا الوصف ما فيه من المبالغة، فلو أن "العدل" تجسد في شخص لكان ذلك في هذا العمري الذي جرى منه هذا الوصف مجرى الدم والنفس يقول([6]):
يا أيها العدل المسدد هكذا
يسعى الملوك لنصر دين محمد
6- نصرة الملة والدين:
تعرض النص في بعض أبياته لهذه المسألة، منبها إلى ما قام به هذا الرجل من جهود جبارة تم خلالها تدارك ما أصاب الملة من اندراس وضياع، فما كان من هذا الرجل إلا أن بادر إلى نصرة الدين فأحيا السنة وأمات البدعة وانتشل العبادة والتقوى من الحضيض، فقد ظهر أمره والشرع مطموس الأعلام، والشرك قد خيم في كل الأنحاء، وذلك ما أوضحته الأبيات الآتية([7]):
وافيت والشرع العزيز دوارس
آثاره والشرك واري الأزند
والدين مطموس وأسلحة الهوى
مسنونة وذرى التقى في الأوهد
أبقاك مولانا لنصرة دينه
وأدام عزك يا كريم المحتد
ب- ملمح إحكام البناء:
وفي هذا المستوى اعتمد الرجل في صياغة نصه عدة آليات لغوية ضمنت له الجودة وقوة البناء وهي في جملتها تقوم على اختيار الألفاظ وقوة السبك، كما تعول كذلك على البلاغة وأساليبها المختلفة من بيان وبديع، وسنكتفي في هذا الملمح بإيراد نماذج يسيرة من توظيف الرجل لعلوم البلاغة في هذا النص.
1- اعتماد الألوان البيانية:
وقد أورد الرجل في نصه منها عدة نماذج شملت التشبيه والاستعارة والكناية، وقد أسهمت جميعا في إكمال جمالية النص، كما أكسبته رونقا وجمالا وأورثته تميزا وإحكاما، وسنسوق بعض أمثلتها فيما يأتي:
التشبيه:
ومن نماذجه ما نص عليه الولاتي نفسه من تشبيه ضمني ورد في هذا البيت([8]):
طلبوا قبول التوب منه تخيلا
فنهاه نور حجى مضيء مُرْشِد
حيث شبه سداد رأيه واتضاح رؤيته بالنور المتألق والمصباح المضيء.
الكناية:
ومن الكنايات الواردة في هذا النص ما ورد من التعبير عن الندم بعض اليد، وهذا تعبير كنائي متداول فقد ورد في القرآن الكريم، كما ورد في نصوص شعرية أخرى، وما عبر عنه الولاتي بقوله([9]):
ندموا عليه ولات ساعة مندم
إلا لعل وليت أو عضَّ اليد
ومن الكنايات كذلك ما ورد من التعبير عن شدة الأمر وقوة المصاب بأن يحار الإنسان في شأنه فيقوم ويقعد دون أن يكون على وعي من ذلك، وهو ما عبر عنه الولاتي بقوله([10]):
فانقادت السودان تحت لوائه
والعرب في الأمر المقيم المقعد
الاستعارة:
ومن الاستعارات الواردة في هذا النص ما أشار إليه الولاتي نفسه خلال شرحه للبيت المتعلق بالتنبيه إلى أن هذا العمري تدارك الدين وهو منطمس الأعلام حيث يقول([11]):
وافيت والشرع العزيز دوارس
آثاره والشرك واري الأزند
والدين مطموس وأسلحة الهوى
مسنونة وذرى التقى في الأوهد
ففي هذا البيت استعارة مكنية، إذ أسند الأسلحة للهوى، وجعل للتقى ذروة كذلك، وهذه كلها تعابير وردت على سبيل الاستعارة.
2- اعتماد الأصباغ البديعية:
وفي هذا المستوى أورد الرجل في نصه عدة نماذج تشهد لمعرفته بالبديع وتمكنه من توظيفه في النصوص الشعرية، فقد ضمن هذه القصيدة عدة ألوان بديعية نورد منها:
الطباق:
وقد ورد في مطلع القصيدة، إذ صرح الولاتي أنه ورد في البيت الأول طباق بين اليمن والعدل والسعد والهلاك حيث يقول([12]):
سعد الزمان بيمن طَلْعَةِ أحْمَد
وبعَدْله هلك البغاة ذوو الْيَد
الجناس:
وقد صرح هو نفسه في الهوامش التي وضع على النص أنه أورد جناسا بين الزرع والضرع، كما في البيت الآتي([13]):
فسبى الذراري والنساء ولم يدع
زرعا ولا ضرعا بذاك المشهد
فواضح من هذا البيت أنه تم الجناس المتوج بين "زرعا" و"ضرعا".
ومن هذه النماذج كذلك البديعية ما ورد من التصريع في البيت الأول، وهو لون بديعي متداول في مطالع القصائد، وسنة متبعة، وقد تابعها الولاتي في هذا النص حيث استهله بتصريع كامل إذ يقول([14]):
سعد الزمان بيمن طَلْعَةِ أحْمَد
وبعَدْله هلك البغاة ذوو الْيَد
ج- ملمح إجلاء الخفاء
ونقصد به تلك التعليقات اليسيرة التي سجلها الرجل على هامش القصيدة، فجاءت بمثابة الطرة، فكأنما هي إجلاء للخفي وتوضيح للملتبس وفك لبعض الرموز وبيان لما في النص من الإحالات الثقافية والتوظيفات البلاغية، والتعليق على النصوص الشعرية وتيسير ألفاظها ببعض التهميشات اليسيرة نهج محظري معروف، ومنهاج تربوي متداول لدى الشناقطة، ومن النماذج التي تتنزل في هذا السياق ما عرف عن الشيخ محمد اليدالي من شرحه لقصيدته صلاة ربي، إذ يسر ألفاظها بكتاب سماه: "المربي على صلاة ربي"، ثم إن النابغة الغلاوي شرح قصيدة اليدالي "إن همي" بكتاب سماه: "غرفة من جم في حل مشكلات إن همي"، وكذلك فعل الشيخ محمد بن حنبل في شرحه للقصيدة التي عارض بها "صلاة ربي"، وشروح الشناقطة وتهميشاتهم على نصوصهم الشعرية كثيرة ومتداولة، وفي هذا السياق تتنزل طرة الولاتي وتهميشه على نصه.
وصفوة القول إن هذا النص يقع على مفترق الطريق بين الأدب والنقد، إذ يعرض لعدد من صفات الممدوح في هذا النص، كما يعلق كذلك على بعض ألفاظه بروح نقدية بلاغية، ولعل من أطرف ما فيه أنه نظم في فترة متقدمة من حياة الرجل، فقد أبدع هذا النص وهو ابن ثلاثين ربيعا، وضمن نصه الكثير من المصطلحات البلاغية التي تدل على أنه ارتبط بهذا العلم في سن مبكرة من حياته، فقد ولع به ممارسة وتنظيرا، لذلك جسده في نصوصه الشعرية، وتناوله ضمن جهوده التعليمية.
ملحق: نص القصيدة
سعد الزمان بيمن طَلْعَةِ أحْمَد
وبعَدْله هلك البغاة ذوو الْيَد
ندِمَتْ بنو ماص الطغاة على الذي
قد فاتهم من فضل هذا السيد
ندموا عليه ولات ساعة مندم
إلا لعل وليت أو عضَّ اليد
طلبوا قبول التوب منه تخيلا
فنهاه نور حجى مضيء مُرْشِد
ورأى سباءهم وقتل رجالهم
هو الصوابَ وذاك رأي مسدد
فسبى الذراري والنساء ولم يدع
زرعا ولا ضرعا بذاك المشهد
حتى تركت بـ"يكمكور" سراتهم
ما بين مقتول وآخر موقد
أمست رقيقات نساؤهم على
رغم وملكهم كأن لم يعهد
استؤصلت شفة الرجال فلم يفت
إلا شديد لم يمت وكأن قد
وصلت بقيتهم جحيما مسعرا
من قبل تصلية الجحيم الموبد
وغدت ديارهم خرابا دثرا
مغنى الذئاب العاويات الصيد
فانقادت السودان تحت لوائه
والعرب في الأمر المقيم المقعد
يتساءلون وهم حيارى ولَّه
هل عندكم نبأ لهذا الصندد
والحال ينشدهم بقول مفصح
أودى الضلال وأهله في ملحد
من شاء فليؤمن ومن يك كافرا
فليعل في أفق السماء بمصعد
وافيت والشرع العزيز دوارس
آثاره والشرك واري الأزند
والدين مطموس وأسلحة الهوى
مسنونة وذرى التقى في الأوهد
فكشفت ظلماء الجهالة عن سنا
فوق النجوم على دعائم وطد
يا أيها العدل المسدد هكذا
يسعى الملوك لنصر دين محمد
أبقاك مولانا لنصرة دينه
وأدام عزك يا كريم المحتد