بين افتتاح السنة الدراسية الجديدة في موعدها المحدد بفاتح أكتوبر من العام 2014م وتأجيلها إلي ما بعد عيد الأضحى المبارك ، لا يوجد فرق كبير علي مستوي المنظومة التربوية وقدراتها الحقيقية علي العطاء والاستيعاب والإصلاح والتنمية. ولعلنا جميعا نتذكر الإجراءات الإدارية
الروتينية المرتبطة بافتتاح المدارس واختتام السنوات الدراسية بطريقة اعتيادية لا تعطي الانطباع - منذ سنوات عديدة- بأن شيئا سيتغير علي الإطلاق..! فمتى يمكن أن نتحدث عن افتتاح مدرسي جدي ؟ وطموح بناء في اتجاه النهضة التعليمية ؟ وماهى أسس ومقومات الافتتاح الدراسي؟ ومالذي ينبغي أن تقوم به الإدارة والأسرة التربوية من أجل سنة جديدة ذات نجاعة تربوية وفاعلية تعليمية حقيقية؟
لن نتحدث طويلا عن الفشل الحاصل علي جميع مستويات العملية التعليمية ،أو عن "المنتديات العامة للتعليم" ،(فتلك مسرحية للاستهلاك السياسي والدعائي لا أكثر)، ولا عن التراكمات السابقة واللاحقة والنتائج المترتبة عنها ، والمتمثلة في:
تدني مستويات مخرجات المدرسة الموريتانية
تراجع العطاء وغياب الضمير المهني
انحسار تيار وبرامج الإصلاح
انتشار ظواهر الغش والانحلال والانحراف في أوساط الشريحة المتعلمة .....إلخ
وبدلا من تشخيص الأوضاع القائمة واستعراض النتائج المعروفة لدي القائمين علي التعليم وآباء التلاميذ والمهتمين بالعملية التربوية ...سنقدم في هذه الورقة الخطوط العريضة لافتتاح سنة دراسية جديدة ومختلفة عن سنوات الإهمال والتلاعب بالمعايير التربوية والتسيب السائد في القطاع كله...
أولا علي مستوي الخريطة المدرسية :
تعد مراجعة الخريطة المدرسية خطوة ضرورية من أجل تجاوز عقبات كأداء علي مستوي التغطية والسيطرة ..فلحد الآن لم تتمكن الوزارة لسنة واحدة من تغطية نقص المدرسين في المدارس النظامية ، الابتدائية والإعدادية بسبب الفوضى الحاصلة في انتشار المدارس وعدم إخضاع افتتاحها للمسطرة التربوية المُنظمة لذلك ، مما يودي كل سنة إلي قيام مُتنفذين بافتتاح الفصول الدراسية العشوائية والتي لم تكتمل بنيتها التربوية ، حتي أصبحنا نري ونسمع عن مفارقات مُخجلة:(12أستاذا في إعدادية لايوجد في الفصل الواحد منها أكثر من 6تلاميذ وإلي جوارها مئات التلاميذ لا يُحظون بنصف العدد من ألئك الأساتذة).و(فصول ابتدائية لا يصل تلامذتها إلي 10 يتوفر لهم عدد كبير من المدرسين ومدارس مكتظة تعاني النقص الشديد في الطاقم التدريسي).
إن فوضي انتشار المدارس وعدم خضوع افتتاحها للمعايير التربوية الضرورية لن تحله الإجراءات الأخيرة المتمثلة في استدعاء الطواقم من خارج الوزارة ، كما لم يُجد معه نفعا الاكتتاب العشوائي للعقدويين .. بل إن تلك الخطوات قد تفاقم الأزمة وتؤدي إلي تولي أشخاص غير مؤهلين للتعليم ، خاصة عندما يكون هؤلاء مجبرين: بإلزام وظيفي ،أو ضائقة مالية لدي العاطلين الذين يتعاقدون مع التعليم دون قناعة منهم بالمهنة أو استعداد للاستمرار فيها .
إن الإجراء الصحيح والضروري في هذا الوقت بالذات هو القيام بمراجعة شاملة للخريطة المدرسية للسنة المنصرمة وإخضاعها للمعايير التربوية الصارمة بحيث لا يفتتح فصل هذه السنة في أي نقطة من البلاد إلا بعد التأكد من النجاعة التربوية وامتلاك الوزارة للقدرات الكافية لافتتاحه، بناءا علي خريطة تضع الأولويات في المقدمة ، وتعطي للمناطق ذات الكثافة السكانية الأسبقية الكاملة، ثم توزع مايتوفر من إمكانات أخري علي بقية المناطق، تبعا لخطة معلنة ،واضحة ،وشفافة .
ثانيا علي مستوي:قيادة المنظومة التربوية:
من أجل تعليم ناجع وفعال لابد من إسناد قيادة المؤسسات التربوية إلي ذوي الكفاءة دون أن تتدخل في اختيارهم وعزلهم؛ الزبونية والمحسوبية والعلاقات السياسية التي أدت في السابق إلي أن يتولي أشخاص لا يمتلكون الكفاءة مناصب قيادية في المنظومة التربوية ..لقد أصبح تعليمنا مستباحا لكل من هب ودب دون معرفة أو دراية بالمهنة وماتتطلبه من تضحية وعطاء وكفاءة .
إن رقابة التسيير المُهملة الآن(الإدارة الوحيدة في وزارة التهذيب التي لم يُعين لها مدير)ينبغي تكون إدارة هامة ونشطة ، لأن قيامها بعملها هو الذي يُشعر القائمين علي التعليم بالمتابعة ويقوًم أداءهم ويكافئهم أو يعاقبهم,ولما كانت هذه الإدارة مُعطلة منذ أن نشأت الوزارة المكلفة بالتعليم (علي اختلاف التسميات) ، فإن المعايير الضرورية لتقويم الأداء ظلت مُختلة ،بحيث لايمكن التََعرف علي من يقوم بعمله بجد وإخلاص، ومن يتهاون به ويتكاسل ...
كذلك فإن المتابعة التربوية (عن قرب) في المرحلة الإعدادية والثانوية لم تُتخذ إجراءات حاسمة يشأنها ،فلم يُطبق - حتى الآن- القرار المُنشئ لسلك مفتشي التعليم الثانوي ،بحيث يُمكنهم من القيام بأدوار الرقابة الفعالة ويجعلهم يمارسون صلاحيات مُستقلة تضعهم في موقع يؤهلهم لتصويب الأوضاع المُختلة وحل المشاكل الميدانية بشكل فعال وسريع .كما أن وجود السلك يتطلب افتتاح قسم للتفتيش التربوي بالمدرسة العليا للأساتذة ؛ يسمح باكتتاب وتكوين الكوادر التربوية القادرة علي تحقيق الانتشار وتنفيذ الرقابة التربوية في المرحلة الثانوية عن قرب ...
ثالثا علي مستوي: البرامج والتكوين
من المعروف أن برامجنا التعليمية لم تُخضع حتى الآن لتقويم وتطوير نابع من إرادة وطنية صادقة ، وإنما ظلت المراجعات السابقة تخضع لتمويلات المشاريع الغربية (الفرنسية منها خاصة) مما جعلها محكومة بأطر مسبقة ومساحات ضيقة واتجاهات غير وطنية ،كرست التبعية العمياء للأنظمة التربوية الاستعمارية وخلقت مقاومة مستمرة للمحتويات المُدرسة من المُدرس والتلميذ معا ..مما يتطلب مراجعة جادة لكل البرامج ومواءمتها مع متطلبات المرحلة وأهداف التنمية والهوية الوطنية ..كما يتطلب إصلاح التدريس :إتباع مناهج تعليمية فعالة وتكوين المدرسين عليها دون تعصب لمقاربة تربوية بعينها (نتيجة دعم خارجي ) كما هو الحال مع مقاربة الكفايات، التي تخلق وضعيا مُربكا؛ ينعكس سلبا علي سير العملية التعليمية برمتها..
رابعا علي مستوي :أوضاع المدرسين والمربين
يعاني المدرس الموريتاني من ضغط الأوضاع المعيشية وارتفاع الأسعار في مقابل ضعف الرواتب ،مما يتطلب العمل بسرعة علي إيجاد مخارج تؤمن انشغال المدرس بالتعليم وتفرغه لمهنته ، ولن يتسنى ذلك إلا بزيادة معتبرة ومتناسبة مع ارتفاع الأسعار لرواتب المدرسين ، أو من خلال دعم خاص تتكفل به مفوضية الأمن الغذائي – مثلا- ويتم من خلال كُتيب عائلي يضمن حصول المدرس في أي مكان علي المواد الغذائية والوسائل الضرورية لمعيشته ،من مسكن و تجهيزات ومؤن وغيرها ...
خامسا علي مستوي: التقويم والامتحانات والمسابقات الوطنية
إن الاستفادة من تجارب الفشل المتراكم في السنوات الماضية ، يفرض علي الوزارات المعنية أن تعمل علي تنفيذ خطة ناجعة لإنقاذ ماتبقي من مصداقية لشهاداتنا الوطنية ، وذلك من خلال إدخال إصلاحات جذرية علي طرق إجراء المسابقات والمشاركة فيها .. ولعل أهم مايجب القيام به في هذا المجال هو : اعتمال آلية الامتحان التمهيدي كشرط لازم للتقدم للمشاركة في المسابقات الوطنية من الشهادة الابتدائية إلي الإعدادية إلي الباكالوريا .وهذا الامتحان يجب أن يكون شفافا وأن تتبع فيه جميع إجراءات تصحيح الامتحانات حتى نتمكن من فرز تلاميذ قادرين علي التعامل مع الأسئلة المطروحة في امتحانات الشهادات الوطنية ،وحتى نوفر للمصححين أعدادا تناسب مع الوقت القصير المخصص للتصحيح ، ونضمن بذلك أكبر قدر من الشفافية ونرفع من مستويات الحاصلين عليها ، ونعيد للشهادة الوطنية مكانتها السابقة..
أخيرا علي مستوي : المدرسة العمومية نفسها
لابد من اتخاذ إجراءات بسيطة و لكنها ضرورية لإعادة الاعتبار إلي المدرسة الموريتانية أهمها :
توحيد طلاء الأبنية التي تحتضن المدارس(بالألوان الوطنية ) بما يمكن من تميزها عن غيرها من المباني ..
توحيد الزي المدرسي مما يخلق لدي التلاميذ وعيا جديدا وتناغما مطلوبا وانسجاما ضروريا لوحدة مجتمعنا ..
العناية بنظافة المدارس وتوسيع الساحات وغرس الأشجار في محيطها
تكريم المتفوقين في الامتحانات الجزئية ومكافأة المدرسين الملتزمين في كل فصل دراسي ومساهمة الآباء والسلطات في ذلك المجهود..
إقامة أيام تربوية دورية في المدارس العمومية وإشراف الإدارات الجهوية والمفتشيات علي ذلك
توحيد مدارس الامتياز مع بقية المدارس العمومية ،لأن وجودها يؤثر سلبا علي بقية المدارس العمومية التي يشعر أبناؤها بالغُبن ، وهي تكرس التفرقة في التعليم ولا تضيف الكثير في مجال العطاء التربوي .. ويمكن الإبقاء علي مدرسة واحدة في العاصمة انواكشوط تضمن تحقق الأهداف (إن وُجدت أهداف واعية لها )...