أجمل شيء في عبد الله وادْ هو ظهره.. عندما أداره للجماهير السنغالية أطلقت زفرة ارتياح كبيرة ودخلت في ليلة ليلاء من الأفراح والأحداث الملاح. كان هذا الثمانيني الذي هدد بعمر طويل آخر من البقاء في السلطة نموذج آخر من نماذج محاولات الانقلابات والالتفاف على الديمقراطية التي تستعر في غرب القارة منذ 2008، كجزء من انعكاسات الأزمة الاقتصادية العالمية وضغطها على المشهد السياسي. وهو نفس الأمر الذي أدى إلى ربيع ديمقراطي اشتراكي في أميركا الجنوبية مع مطلع الألفية، و ربيع ديمقراطي إسلامي في العالم العربي 2011، أما في غرب إفريقيا فقد أدى إلى سطوة المؤسسة العسكرية و النخب المجنية الحاكمة المتحالفة معها من القوى المحتقرة للديمقراطية.
إن طموح العسكر و القوى المدنية الحاكمة لتجاوز بديهيات الديمقراطية هو الخطر السياسي الأول في غرب إفريقيا هذه السنوات. و فيما نجحت السنغال و ساحل العاج و غينيا في الانتصار الديمقراطي فإن عكس الأمر حدث في موريتانيا و مالي. و لم يكن النجاح في الانتصار للديمقراطية دوما بدون ثمن فقد اقتضى الأمر حربا أهلية شبه عرقية في ساحل العاج ما زالت البلاد تحاول التخلص من إرثها. و في السنغال تم تحييد الصراع الأساسي المبني على الطيفية السياسية ليتحول إلى صراع رجال ورموز مما أدى للإتيان بمنافس شخصي - أكثر مما هو فكري- لعبد الله واد هو رئيس وزراءه السابق، ماكي صال. أما في غينيا فقد جاء الإنقاذ من خلال عناية إلهية نجمت من صراع أحقاد بين مدبري الانقلاب ففشلت ريحهم.
لماذا نجحت الديمقراطية في السنغال و فشلت في موريتانيا و مالي؟
إن للأمر عدة تفسيرات سياسية و سوسيو-اقتصادية. غير أنني أركز هنا على الوضع الدولي والداخلي السياسي.
بقدر ما كان للأزمة الديمقراطية في غرب إفريقيا علاقة بالأزمة المالية 2008- حيث قفزت اللوبيات العسكرية و التجارية إلى مجال الدولة للسيطرة على فرص الاستثمار و الربح بدل أن تجدها في الفرص الاستثمارية و في ديناميكية السوق التي حطمتها الأزمة- فإن أيضا للأزمة علاقة بالسياسة الأمبريالية الأميركية و الأوروبية.
في مالي، التي كانت سويسرا غرب إفريقيا و التي بالكاد تمتلك جيشا (جيشها يتكون من 6000 آلاف جندي أكثريتهم احتياطيون عمليا) والتي اضطرت إلى الاستفادة من الميليشيات المحلية لفرض السيطرة على الأقاليم الشمالية المتمردة في التسعينيات، بدأ الوضع يتغير منذ الإعلان عن عولمة مكافحة الإرهاب كجزء مما عُرِفَ بالعقيدة البوشية ذات الشقين الشهيرين: التجارة الحرة و مكافحة الإرهاب. و هكذا وجدت الولايات المتحدة قيمة استيراتيجة في مالي- التي لم تتمتع باهتمام من العم سام من قبل- و أدمجتها في برنامج وزارة الخارجية المعروف بـ "برنامج مكافحة الإرهاب عبر للصحراء" Trans-Sahara Counter Terrorism Program (TSCTP). في اكتوبر 2009 أشرفت الولايات المتحدة على منح معدات بملايين الدولارات للجيش المالي و الإشراف على تدريبه و رفعه من وضعية جيش خامل إلى وضعية جيش حي و متمرس. كما أشرف النقيب الأميركي روبرت برايس على تدريب وحدات مالية مقاتلة يوجد على رأسها النقيب ساناغو، الذي- مثله مثل العقيد خليفة حفتر في ليبيا- تدرب أيضا في فيرجينيا في الولايات المتحدة الأميريكة، و الذي سيقوم لاحقا بثاني أغبى انقلاب عسكري في تاريخ المنطقة: انقلاب عسكري قبل أسابيع من انتخابات لا يترشح لها الرئيس الحالي. (الانقلاب الأكثر غباءا هو انقلاب رد على الإقالة الذي قام به الجنرال محمد ولد عبد العزيز في موريتانيا في 2008).
ولم يتوقف إحياء الجيش المالي عند جهود برنامج بوش بل و أيضا من خلال الأفريكوم، التي منحت معدات بخمس ملايين دولار أميركي فيها معدات عبارة عن عشرات عابرات الصحراء و الراجمات و الرشاشات و التدريبات على المناورات و البدلات العسكرية المنسوجة على طريقة المارينز الأميركي، و التي رأينا النقيب ساناغو يرتديها بفخر في بيان إعلانه لاقلابه.
إن سياسات الأفريكوم و السياسات الأوروبية القاضية ببناء عازل جيوسياسي ضد الإرهاب، و التي بدأت في سياسات الدعم الاقتصادي و السياسي مقابل القضاء على الهجرة و الإرهاب و المخدرات، و التي تتمركز أساسا على تقوية الجيوش في غرب إفريقيا و منطقة الساحل و استخدامها كقوة ضاربة ضد الإرهاب يضعف حظوظ الديمقراطية في المنطقة لأنه يقوي من الجيش على حساب السياسة المدنية.
و في موريتانيا ساهم إنفاذ الجيش في حرب إقليمية في تعكير الاستقرار السياسي. فقد عاد الجيش للواجهة على حافة تورط إقليمي عندما أمر الرئيس الأسبق ولد الطائع بإنفاذ ألف جندي إلى صحراء مالي في 2005. و تماما كما حدث في حرب الصحراء فقد أعطى هذا فرصة للجيش ليستعيد زمام السلطة. اختلت التوازنات بين الجيش الوطني و الحرس الرئاسي الذي استطاع لأول مرة في تاريخ البلاد تنفيذ انقلاب عسكري في أغسطس 2005. و رغم أن العسكر عادوا و نفذوا انقلابا مرتجلا في 2008 إلا أنهم سرعان ما حاكوا تفاهما مع فرنسا و إسبانيا و ألمانيا (كشفت عنه وثائق ويكيليكس التي تحدثت عن صمت فرنسي اسباني عن ما توصلت به من تزوير انتخابي في 2009) تمكنوا من خلاله من الحصول على دعم سياسي و سكوت عن المسار الديكتاتوري في مقابل حرب بالوكالة من أجل المصالح الفرنسية. في أغسطس 2009 قام الجيش الموريتاني و الكوماندوز الفرنسي بتنظيم هجمة على القاعدة من أجل تحرير رهينة فرنسي قاربت مهلة إعدامه على الانتهاء. كما قام هذا الجيش بتنظيم ضربات جوية متواصلة على واغادو. و هو ما تخللته ضربات من القاعدة في النعمة 2010 و محاولات فاشلة في نواكشوط 2011، كما سقط ضحاياه مدنيون ماليون مرارا 2010 و 2012.
و رغم أن ولد عبد العزيز، الذي تصفه صحيفة ليبراسيون الفرنسية بـ"رجل أوروبا في المنطقة" يواجه تحديا قويا و تذمرا داخليا إلا أن جهوده التطمينية تنصب على تطمين أوروبا فكان أول شيئ فعله غداة تنظيم المعارضة لأكبر مسيرة تذمر ضده هي تنظيم ضربة عاجلة على شمال مالي.
وبعكس ولد الطائع فإن الجنرال عزيز يستفيد من الاستثمار في الضربات العسكرية من خلال رفع ميزانية الجيش ووقف التذمر العسكري من خلال جعل الحرب في مالي مربحة للجنود والضباط الذين يشاركون فيها ويحصلون منها على مخصوص أجري يومي يعادل في اليوم الواحد ثلث مخصوصهم الشهري. وإضافة إلى هذا فإنه أخلى العاصمة نواكشوط من جميع الوحدات الضاربة خوف انقلاب محتمل بحيث أن جهاز الشرطة أو فرقة متسللة من القاعدة أصبحت قادرة على القيام بانقلاب في العاصمة. كما يستفيد الجنرال عزيز من نزعة جيغونية شعبوية مبالغة في الحس الوطني ومملوكة بتمجيد أي توظيف للجيش وتعتبر انتقاده خيانة عظمى و يمررها، وهي دعاية يمررها حزب شعبوي ورأي ضيق لم يسمع يوما بالنقد الوطني للسياسات العسكرية لدولة ما. و في مرحلة ما انخدع زعيم المعارضة بحرب الجيش فاعترف على إثرها برئيس لا يقر بسلامة انتخابه، ولم يدرك إلا لاحقا الطبيعة الاستثمارية والامبريالية لحرب الوكالة.
إن تقوية الجيش و جعله جالبا للأموال الغربية سيضعف الديمقراطيات و القوى المدنية في دول الساحل و سيقوي النخب العسكرية و أذيالها الجيغونية.
و من حسن حظ السنغال و غينيا و ساحل العاج أن ضعف الحضور السياسي للجيش و ضعف الاستثمار العسكري الغربي فيها و الغياب المباشر من مشروع الأفريكوم أضعف فيها من دول الساحل المطلة على الصحراء. ولهذه الأسباب انتصرت الديمقراطية السنغالية في محنتها الثانية (المحنة الأولى كانت ضد محاولة عبد جوف اختطاف الديمقراطية في 2000) لأن المواجهة السياسية بقيت محصورة بين قوى مدنية و بقيت مواجهة إما سلمية و إما ذاتية و لا تتعلق باستثمار امبريالي.
عن مدونة أبو العباس ابرهام