كان يوم الأربعاء 7 من نوفمبر سنة 2007 يوما خاصا في تاريخ مقاطعة كنكوصة، كان اليوم الذي قدمت فيه شهيدا في انتفاضة عرفت في ما بعد في أوساط السياسيين بانتفاضة الجياع. كان يوما من أيام نوفمبر التي تشعرك ببداية قدوم الشتاء ،جو صافي ومنعش وحرارة في المتوسط.
استيقظ الطالب شيخنا ولد محمد ولد الطالب النافع كأمثاله من التلاميذ وبدأ في تهيئة عدته للذهاب إلي المدرسة، و بعد أن أقام الشاي لوالديه انطلق إلي الثانوية التي لا تبعد أكثر من 200 متر عن منزل أهله ، كان التلميذ شيخنا طالبا في الصف الخامس آداب وحصة الثامنة من مادة العلوم الطبيعية وكان ذالك أول حضور للتلميذ شيخنا لهذه المادة (مادة ثانوية لتخصصه) سأل الأستاذ احمد:التلميذين شيخنا وآخر لماذا تغيبتما كل هذه الفترة ؟ ويبدوا أن جواب الطالبين لم يكن مقنعا للأستاذ احمد ، فطردهما خارج الحصة ...
كانت كنكوصه كغيرها من مناطق موريتانيا قد أنهت لتوها انتخابات رئاسية فاز فيها سيد محمد ولد الشيخ عبد الله المدعوم من العسكر، وكانت النسبة التي حصل عليها في كنكوصه نسبة قياسية علي مستوي البلد اقتربت من 90 في المائة.
وظن الناس في أحاديثهم أن ذالك قد يكون له انعكاس علي الاهتمام بهم من طرف السلطة الجديدة، وهم الذين يعتبرونها مقاطعة منسية بكل المقاييس، فهم مستثنون في مجلس الوزراء، كما انه من النادر حصولهم علي مشاريع اقتصادية ذات فائدة...
كانت سيارات مشروع مكافحة الفقر في افطوط الجنوبي وكركور العابرة للصحراء تعيق سير الناس ، ولا تنعكس علي حياتهم ، لقد مل الناس من الشعارات...
كانت أسلاك الكهرباء تشق السماء دون كهرباء منذ أزيد من سنة لسبب غامض ، وكانت الشبكة المائية متعثرة وعاجزة عن تلبيه حاجة الناس الواقعين علي بحيرة مائية ، وكان الناس يشكون من الفواتير ومبالغها غير المفهومة ، وكثر القيل والقال من أين جاء هذا المبلغ كله ؟
كانت الأسعار تتصاعد بشكل صاروخي بفعل معطيات دولية و أخري داخلية وأحس الناس بعدم القدرة علي مسايرتها وبدا وكان الفقراء سينسحبون من هذه الحياة الكئيبة القاسية ، كانت السنة ممطرة ، لكن الحرائق أخذت تلتهم كل شيء ، ليس حريقا واحد أو اثنين خلال اليوم بل أكثر ، بدأت الشكوك تراود الناس عن إمكانية أن تكون مدبرة وانتشرت الشائعات بشأن ذالك ، تري من يقف وراءها ، لقد لبد دخان الحرائق سماء كنكوصه لأسابيع ومن عدة اتجاهات ، في احد الأيام خرج تلاميذ الثانوية بسبب الدخان الذي أصاب الطلاب والمدرسين بالسعال .
كان طلاب الثانوية يفترشون الأرض بسبب عدم وجود المقاعد وقد تسبب الغبار في انتشار أمراض الجهاز التنفسي بين صفوفهم. كان الناس يتساءلون ما لذي يجري ؟ وأين ( الدولة)؟
الإذاعة وهي وسيلة إعلام البلد الوحيدة توقفت عن البث منذ بعض الوقت إلي هذه الجهات، لقد كان الناس مستاءون جدا ،ويشعرون بالخيبة من الحكم الجديد الذي أدار لهم ظهره علي ما اعتقدوا... وكنت تلاحظ ذالك الاستياء في أحاديث الناس وفي الأسواق والأماكن العامة .
وشاع بين الناس أخبار ثورة جكني ، والثورة مثل الزكام سريعة الانتقال ، وصارت القصة الأهم لدي الناس ، إضافة إلي الاستياء العارم بينهم ...
يوم الأربعاء 7 نوفمبر قبل الساعة العاشرة ب15 دقيقة كان الطالب شيخنا ابن الأسرة المتوسطة الحال جالسا مع زميله تحت أشجار بالقرب من مباني المدرسة في انتظار الساعة العاشرة، مر أستاذ التاريخ محمد عليهما سألهما لماذا تجلسان هنا خارج الدرس ؟ قصا قصتهما، وبدت عادية وبما أن العاشرة أصبحت قريبة فقد تركهما وطلبهما بالحضور العاشرة... كانت آخر مرة يري فيها التلميذ شيخنا علي قيد الحياة .
كان التلميذ شيخنا يمتلك إمكانات قيادية بارزة ، كانت واضحة في سلوكه مع زملائه داخل الفصل وخارجه ،بالرغم من انه لم يكن متفوقا في المدرسة ...
دق الجرس بعد انتهاء العطلة القصيرة ( 10 دقائق ) بدا التلاميذ في الدخول إلي المؤسسة ، لكن شيئا ما حدث في الفصول القصية من المدرسة ، مئات التلاميذ الغاضبين يحملون الحجارة ، ويرمونها في كل اتجاه مندفعين خارج الثانوية ، ويصيحون بشعارات مختلفة تندد بالسلطة وتطالب بتوفير المقاعد و بتخفيض الأسعار وعدم تهميش المقاطعة...
لم يستغرق خروج التلاميذ أكثر من دقائق قليلة و اتجهوا عبر الطريق الرئيسي إلي وسط المدينة حيث توجد المباني الإدارية والسوق ،و في الطريق انضم إليهم عدد من المواطنين ...
علمت فرقة الدرك بالخبر وهي لا تبعد عن الثانوية إلا بحوالي 300 متر ولكن في الجهة المعاكسة من الطريق الرئيسية ...
اتجه قائد الفرقة في سيارة الدرك مع ثلاث من إفراده صوب المتظاهرين وكان يريد احتواءهم سلميا ولم يكن راغبا بالاصطدام بهم علي ما يبدوا، فقد كان يخشي تكرار سيناريو جكني منذ أيام ( حيث تمت السيطرة علي مكتب الدرك وتم تحطيمه وتم الاعتداء الجسدي عليهم ) وبالتالي فقد حاول عدم الاصطدام بالمتظاهرين ، وكان يقول لهم انتم علي حق نحن معكم و لكن لا تفسدوا شيئا ..
وقف عنصران من الدرك في البداية أمام البلدية حيث يوجد مكتب المحاسب من اجل حمايته قبل أن ينسحبوا تحت ضغط المتظاهرين ،استخدم الدرك كمية قليلة من القنابل المسيلة للدموع لكنهم تضرروا منها أكثر من المتظاهرين فقد كانت تسقط بالقرب منهم وبشكل معاكس للرياح ..
بعد وقت قصير اقتحم المتظاهرون مبني البلدية وكسروا الأبواب وحطموا المكاتب ، كان العمدة غائبا بينما اختبأ الأمين العام في احد المكاتب المغلقة ، وفعلوا نفس الشيء مع دار الضيافة حديثة الإنشاء التابعة للبلدية ..
وعلي القرب من البلدية كان يوجد مركز الحالة المدنية دخله الغاضبون وحطموه جزئيا واحرقوا بعض الأوراق . اتجه المتظاهرون إلي مكتب شركة المياه ،و وقعت اشتباكات محدودة مع عمال الشركة أصيب فيها شخصين بجراح قبل أن ينسحب العمال تاركين المقر وتم تدمير كل شيء ( كمبيوتر، وساحبة ،ووثائق وسجلات، ومكاتب...)،
واتجه المتظاهرون إلي مبني المقاطعة وهناك وقعت الملحمة ، كان هناك ثلاثة فقط من الحرس ( البقية في مهمة تتعلق بإطفاء الحرائق) هم اج(من لعيون ومتزوج في كنكوصه) ومناي (من أبناء كنكوصه) بقيادة مساعد قائد الفرقة ألحرسي وان ( من بوكي) ، وبما انه يوجد بابان لمبني المقاطعة احدهما المدخل الرئيسي والآخر الباب المؤدي إلي المكاتب ، وقف اج عند الباب الرئيسي (حيث وقعت الأحداث) ، بينما كان مناي عند المدخل الخلفي المؤدي إلي المكاتب ، كان مكتب الحرس مغلقا والمفاتيح مع القائد احمد سالم ( في مهمة إطفاء) كسر أفراد الحرس قفل مكتبهم بهدف الحصول علي مسيلات الدموع ، استخدم الحرس 5من القنابل المسيلة للدموع لكنها لم تنفجر لسبب غامض ، أثار ذالك سخرية المتظاهرين، كانت زغاريد النسوة تملا المكان..
بدا الحرس في إطلاق العيارات النارية بشكل كثيف في السماء عند المدخل الرئيسي ، فتراجع المتظاهرون ، لكنهم عادوا مرة أخري بشكل اقوي و أصيب ألحرسي اج بضربة حجر فسقط علي الفور مغميا عليه ، حمل الحرسيان رفيقهما إلي الباب الخلفي حيث الأوضاع اقل سخونة ومن اجل حمله في سيارة الدرك إلي المستوصف .،
في هذه الأثناء تمكن المتظاهرون من تكسير الباب الحديدي واقتحام المقاطعة ، طلب القائد وان من الجندي مناي إطلاق النار لكنه تردد فانتزع منه السلاح الاوتوماتيكي سريعا وجلس علي ركبته مصوبا باتجاه المتظاهرين لقد أصابت احدي الرصاصات الغادرة الطالب شيخنا ولد محمد في مؤخرة الرأس فسقط علي الفور...لقد تدفقت دماء زكية شابة من اجل موريتانيا... وكان من الممكن أن تكون مجزرة ، فالرصاص شق المتظاهرين حتى المتاجر المجاورة أصيبت به.
انشغل الجميع بالمصاب وحملوه في سيارة اتجهت إلي مستوصف كنكوصه ... وقبلها بقليل وصلت سيارة الدرك تحمل الجندي المصاب ، كان الطاقم الصحي في قمة الارتباك ، كانت هناك ممرضة تبكي بشكل هستيري فقد طغت الإنسانية علي العلوم ، وكان الطبيب الرئيس ( عمار) يحاول السيطرة علي الوضع ... اتجه الناس من كل حدب وصوب إلي المستوصف ، وامتلأت الطرقات والساحة الملاصقة له بالجماهير...
تدخل المتطوعون من المدنيين لإبقاء المستوصف خارج الفوضى ، عاين الطبيب الشاب شيخنا وهو يستلقي علي ظهره في الفناء الداخلي للمستوصف كان ينزف من رأسه وفي غيبوبة تامة ، كان هادئا وجميلا وحينما تحدق إليه كنت تعتقد انه يتمتم او يريد ان يقول شيئا ولكن ... لقد كانت الإصابة مباشرة و واضحة ووراء الاذن مباشرة ، لقد كانت قاتلة... ،
حملت سيارة الإسعاف الشاب وبعضا من ذويه والطبيب باتجاه كيفة ، وبقيت دماؤه لبعض الوقت علي بلاط المستوصف ،كشاهد علي تضحية شاب من اجل وطنه وبلده المنسي ، وبعيد الظهر أعلن عن وفاة الشاب شيخنا وهو يدخل مستشفي كيفة ، وتم دفن جسده الطاهر في مقبرة كيفة.. لقد شعر سكان كنكوصة بالصدمة والحزن الشديد ...
وصلت الامدادت الأمنية إلي كنكوصه من مقاطعة كيفة ، رفقة والي الولاية وحاكم كنكوصه الجديد موسي الذي وصلها لأول مرة ذالك اليوم ... وبدأ الإعلام الوطني و العالمي يتناول الحدث .
تدفق الناس إلي الأسرة الكريمة لتعزيتها والوقوف الي جانبها و كانت علي قدر كبير من الإيمان ، و كنت تلاحظ مدي الصبر الذي يتمتع به والدي الضحية وإخوته وهم يتلقون التعازي من الجميع ، بعد أن دفنوا اصغر أبنائهم.
في كنكوصه بقي الوضع متوترا ، وصل والي الولاية حيث عقد اجتماعات متواصلة مع الأهالي ومع الطاقم المدرسي في الثانوية حيث تم اتهام بعض الأساتذة بالوقوف وراء تلك الأحداث وهو ما لم يثبت .. وقدم الوالي التعازي لاسرة الشهيد نيابة عن الرئيس.
وباشرت السلطات عملية اعتقالات واسعة في المدينة وبين التلاميذ قبل أن يفرج عنهم لاحقا يوم الخميس أغلقت الثانوية ولم تتم الدراسة فيها وبدا الهدوء يعود رويدا رغم الحزن الذي عم جميع أنحاء كنكوصة ،
ورغم أن أسرة الشهيد لم تطلب له تعويضا لأنها لا تري له ثمنا إلا أن آخرين تطوعوا في الدفاع عنها ، وباشر القضاء التحقيق في الموضوع وأصدر عدة أحكام بشان التعويض غير أن أيا من تلك الأحكام لم ينفذ. وقد تم تحويل ألحرسي إلي مسقط رأسه مدينة بوكي ، بعد أن أوقف لفترة محدودة ،
محمد عبد ولد بك