كثر الحديث مؤخرا -في وسائل الإعلام الحرة الموريتانية- عن جدلية "بيظاني-حرطاني"، خاصة فيما يتعلق بالسؤال "هل "الحراطين" مكونة من المكونات التقليدية لمجتمع "البيظان"، مثل "إيكاون" و"اشرفه" و"لمعلمين" و"لعرب" و"آزناكة" و"ازوايا" و"اللحمة"؟ هذه المكونات التي تبحث –من خلال المشروع الديمقراطي الذي يربطها بالمجموعات البولارية والصونينكية والولفية- عن عقد اجتماعي جديد أكثر تطورا وعدلا وإنصافا، يضمن للمجتمع انسجامه وتنميته ويجنبه ويلات التفرقة العرقية والحروب الأهلية والاندثار. أم أن "للحراطين" خصوصيات اجتماعية و ثقافية وعرقية تخرجهم من الإطار التقليدي لثقافة "البيظان"؟ قصة جميلة المنعطف الفكري الأخير لهذه الجدلية "الجديدة- القديمة"، هو أن سيدة تطلق على نفسها لقب "الحرطانية" أبدعت حين حررت نصا شيقا باللغة الفرنسية حول الموضوع وتحت عنوان "شريحية" ((«Castée»، تم نشره لأول مرة على موقع "آدرار- أينفو". فالخيال المتميز "للحرطانية" وجدارتها الأدبية والفكرية، تفرض على القارئ فرضا أن يقع في أسر كلماتها وأسلوبها. ولأن كل الموريتانيين المهتمين بالحقل الثقافي والإعلامي قرأوا -دون أي شك- هذا النص الفريد (شخصيا قرأته مرتين ولربما أعدت قراءته مجددا...)، فسأتعرض بإيجاز كبير لمحتواه: تبدأ القصة بسؤال موجه من طرف تلميذة صغيرة إلى رفيقتها "الحرطانية" وهي في السنة الثانية الابتدائية، تستفسرها فيه عما إذا كانت بالفعل "حرطانية"، لتبدأ الكاتبة رحلة شيقة للتعرف على معنى كلمة "حرطانية" الذي كانت تجهله. بعد الإنصات إلى اجتهادات متباينة لكل من أبيها وأخيها و"العم فال الولفي" بخصوص معنى الكلمة، وبعد متابعة مشادات كلامية ساقطة بين زوجة أبيها التاجرة وزبونة "بيظانية" ، قررت "الحرطانية" أن تتقوقع على نفسها، خاصة ضد "البيظان"، وأن تركز على دراستها، حيث ظلت تحتل إحدى الرتبتين الأولى أو الثانية على مستوى قسمها. عانت "الحرطانية" إلى درجة أن "أي نظرة غير ودية أصبحت تعتبرها إشارة إلى كونها "حرطانية" ". وتتطرق الكاتبة لأزمة الهوية التي عانت منها ولا زالت تعاني منها، فحتى وإن كانت تؤكد للآخرين على الدوام أنها "فخورة" بكونها "حرطانية" إلا أنها عندما تبقى وحدها تشعر بمركب نقص وبالدونية. الشيء الذي جعلها تتأرجح نفسيا بين "الحقد والشعور بالذنب والألم". وتتساءل "هل نحن أمة أم شعب أم حزب أم شريحة؟". اكتشفت "الحرطانية" أن "العم فال" ليس "ولفيا" بل هو "حرطاني" تنكر لأصوله، كما أبدت بعض الأسف على مواقفها في الماضي حيث شعرت بأنها أصبحت تتبنى موقفا عنصريا من "البيظان" وأنها فوتت على نفسها فرصا إنسانية واجتماعية ثمينة بسبب هذا الموقف. وعلى الرغم من ذلك، تتعهد الكاتبة بمواصلة جهودها خدمة لقضية الحراطين، إلا أنها لا تريد ان تشبه " لا بيرام و لا العم فال !". ملاحظات على القصة 1. لهذه القصة أهمية اجتماعية وثقافية جوهرية إذ تشرح للمثقفين الموريتانيين الذين لا ينحدرون بالضرورة من شريحة "الحراطين" وللأجانب، الوضعية النفسية الصعبة التي تنتاب هؤلاء، فبحسها الأدبي والتربوي الرفيع، نجحت الكاتبة في حمل الجميع على فهم إشكالية وطنية مصيرية، ظلت حكرا على مجموعة ضيقة من السياسيين المهنيين، تناور بها داخليا وخارجيا وتنفر منها -عن قصد- بقية فئات المجتمع 2. الكاتبة تتحدث عن أبيها وأخيها وحتى عن "العم افال"، دون أية كلمة عن أمها، الشيء الذي يمكن اعتباره، من منظور التحليل النفسي، لب الصعوبات التي تواجهها والتي يتطلب حلها الحديث عن...أمها مطولا على أريكة الطبيب النفساني، ولا يبشر امتطاء إشكالية هوية الحراطين بخير على قرب التماثل للشفاء النفسي، لسبب بسيط هو أن مسألة "الهوية" تشكل خالجة لدى كل آدمي 3. الكاتبة تدعي أن أسرتها كانت الأسرة الوحيدة في القرية من أصول "الحراطين"، الشيء الذي لا يمكن أن يحدث إلا في مخيلة مبدع(ة) ماهر(ة)... 4. أعتقد أن القصة جميلة إلى حد أنها لا يمكن أن تكون حقيقية، ولدي شخصيا فكرة عن كاتب(ت)ها الحقيقي(ة)... فالكتاب بلغة موليير في "بلاد المليون شاعر"، لا يتجاوزون العشرات، خاصة وأن العبارات اللهجية التي وردت في القصة تنم عن إتقان مطلق "للحسانية"، الشيء الذي يقلل من عدد الكتاب المحتملين للنص المذكور، وبما أن الكتابة من "العيار الثقيل"، فإن هؤلاء الكتاب المحتملين تكفيهم أصابع يد واحدة! 5. النص الثاني "للحرطانية" والذي هو بعنوان "لنوقف حجب محيانا أعزائي الموريتانيين" « Arrêtons de nous voiler la face chers Mauritaniens »- والذي ترفض فيه فكرة أن "لحرطاني" هو "بيظاني أسود"، جاء أقل عفوية وأعمق سياسيا من النص الأول وشعرت شخصيا، بعد قراءته، أن الكاتب(ة) أماط(ت) اللثام أكثر من اللازم عن وجهه(ا) ولربما بطريقة غير إرادية !... وجهة نظر بالعودة إلى موضوع النقاش، أعتقد أن عوامل كثيرة دينية وعاطفية وثقافية واجتماعية وتاريخية، تجعل من المستحيل فصل "الحراطين" عن المنظومة "البيظانية"، فالصورة البلاغية لبياض العين وسوادها تكاد تطابق حقيقة التجانس بين المجموعتين. ولو قبلنا جدلا أن متطرفي شريحة "الحراطين"، ولأسباب سياسية هزيلة، وفقوا في عزلها عن هذه المنظومة، فإن ذلك من طبيعته أن يهدد المجتمع الموريتاني ككل بما فيه "الحراطين" أنفسهم، كما أنه سيزيد إشكالية الهوية تعقيدا لديهم. وسيتعلق الأمر بانتحار حضاري يتحتم على عقلاء "الحراطين" ومثقفيهم وجميع القوى الحية الوطنية التصدي له، وفي هذا الإطار تندرج – على ما أعتقد- مساهمة "الحرطاني(ة)". إن عصرنة المجتمع الموريتاني مسألة ضرورية للمحافظة على كيان الدولة وللنأي بالبلاد بعيدا عن ويلات الفوضى، خاصة وأن الظرفية الإقليمية المضطربة تنذر بانهيارات سياسية واجتماعية وشيكة. إلا أن ما نشاهده اليوم من تأجيج متعمد للنعرات الفئوية والعرقية من لدن بعض الساسة البائسين فكريا والمفلسين سياسيا، يشكل تكريسا خطيرا للحيف الاجتماعي وللتفرقة الفئوية وعائقا حقيقيا في وجه الاندماج والوحدة. فالغريب في الأمر أن دعاة "المساواة وحقوق الإنسان" في موريتانيا هم في الواقع رسل لزرع الحقد والتنافر بين مكونات المجتمع الواحد، ف"اشريف" الذي يتباهى بشرفه (حتى ولو كان قريب العهد بالشرف!) على الصعيدين الإعلامي والسياسي و"لمعلم" الذي يطالب بالوظائف العمومية لأبناء شريحته و"الحرطاني" الذي يشتم ويلعن "البيظان" على مسمع ومرأى من الجميع داخليا وخارجيا، يساهمون جميعهم -وبنفس الدرجة- في تكريس البنى التقليدية للمجتمع ويفوتون فرصا ثمينة للاندماج والوحدة، والأخطر من ذلك كله أنهم يفتعلون أجواء من التنافر الاجتماعي غريبة على البنية التقليدية، هذا التنافر الذي قد يؤول إلى القطيعة الاجتماعية وإلى العنف الأهلي. ولم تسلم أحزابنا السياسية -التي تعتبر كيانات معاصرة بامتياز- من ظاهرة التردي الحضاري، حيث انجرف بعضها إلى هاوية القبلية والجهوية والعرق، فتحولت أحزاب قديمة إلى مجرد "مكبرات صوت" لقبائل وجهات وأعراق وشرائح (وحتى أسر) زعمائها. فبتأجيج الحزازات الفئوية من طرف باعة الأوهام ومريدي المال والشهرة، يصبح مجتمعنا مهددا بأن تتراجع مستويات انسجامه مقارنة بالوضعية التي كان يعيشها خلال القرون الوسطى!وللأسف الشديد، فهذا بالضبط ما حصل لبعض المجتمعات الساحلية المجاورة... إن القضاء على هذا التهديد الخطير لا يعني بالضرورة الحد من مستويات الحريات العامة الذي عرفته البلاد خلال السنوات الخمسة الأخيرة، بل يعني ترسيخها وتطويرها. فبفضل هذه الحريات الجديدة، تمت حلحلة مسألة "الإرث الإنساني" وتجاوزت موريتانيا -بأمان سياسي وأمني- مطبات "الربيع العربي" المقيت واستعادت الدولة مصداقيتها داخليا وخارجيا وتحسن مستوى الرقابة على أداء الإدارة العمومية، وعلى أية حال فواهم من يطمع في إيقاف عجلة التاريخ... فالحرية إطار ضروري لتطور المجتمعات والأفراد، إلا أنها يمكن أن تستغل سلبا أو إيجابا، فبدون مستوى أدنى من الوعي والأخلاق و الثقافة والمسؤولية يمكن أن تتحول الحرية إلى قيد مهين (هذا ما يحدث مثلا للمدانين قضائيا) أو إلى جرعات سم مدمرة(على غرار المدمنين على المخدرات في المجتمعات الغربية). إن ظاهرة التقوقع على أضيق مستويات الهوية، تحت ضغط عولمة إعلامية ومالية جارفة تجيز التدخلات الخارجية السافرة، لا ينجو منها اليوم أي مجتمع ولا حتى أي فرد، إلا أن بعض هذه المجتمعات وبفضل أجواء الحريات العامة وكفاءة نخبها السياسية استطاعت الـتأقلم مع إكراهات المرحلة، فحافظت على لحمتها الاجتماعية، وبعضها -مثل العراق وليبيا وأوكرانيا ...إلخ- انهارت انهيارا دون مقاومة سياسية وأخلاقية تذكر. مقترحات حفاظا على اللحمة الاجتماعية والسلم الأهلي في موريتانيا، يتوجب على: 1. الفاعلين السياسيين والاجتماعيين أن يتذكروا أن أية دعاية قبلية أو عرقية أو فئوية تشكل خطرا حقيقيا على البلاد وتخالف تعاليم ديننا الحنيف ودستورنا وقد تعرض مرتكبيها للمساءلة القضائية 2. المفكرين والمثقفين والسياسيين أن يضطلعوا معا بدورهم في القضاء على مخلفات الرق وحلحلة باقي القضايا الوطنية ونشر الوعي المدني والتصدي لدعاة التطرف والتفرقة، "بالحكمة والموعظة الحسنة" 3. الدولة أن تحسن باطراد من أداء المؤسسة المدرسية كإطار لصناعة النخب الوطنية من خلال تطبيق صارم لمبدأي تساوي الفرص والاستحقاق، الشيء الذي يشكل أفضل علاج للقضاء تدريجيا على مخلفات الرق 4. السلطات العمومية أن تنظر في مسألة التمويلات الخارجية للنشاطات السياسية والجمعوية لكي لا تظل موريتانيا نشازا بين دول العالم، تحييدا لخطر استغلال طيبوبة أو جشع أو عوز بعض الموريتانيين لخدمة أجندات خارجية 5. الأحزاب السياسية أن تنسجم مع نصوصها ومع القوانين، حيث لا يمكنها أن تدعو (في مواثيقها) إلى توحيد صفوف كل أطياف الشعب الموريتاني، في الوقت الذي تعجز فيه عن تحقيق حد أدنى من الوفاق الوطني فيما بينها، ويقدم بعضها على الترويج العلني للكراهية والعنصرية.