هلَّلت شيعة الرئيس الموريتاني،محمد ولد عبد العزيز،لقرارِ القمة الإفريقية،المنعقدة أواخر الشهر الماضي في ملابو،بطردِ وفدٍ إسرائيلي كان ينوي حضورَ أشغال القمة بصفةِ مراقبْ، و ذالك ضمنَ إستراتيجية إسرائيلية واسعة و نشطةْ ترمي إلى مواكبةِ حقيقةِ أنَّ مستقبلَ العالم اقتصاديا و استراتيجيا سيكون في إفريقيا. اختزل أنصار النظام قرار القمة في موقفٍ شخصي لولد عبد العزيز،الرئيس الدوري للإتحاد الإفريقي،دونَ الخوضِ في خلفياته.صحيحٌ أنَّ ولد عبد العزيز اعترضَ على مشاركةِ الوفد الصهيوني لكنَّ فضلَ التعبئةْ لرفضِ تلك المشاركة يعودُ إلى دولِ الممانعة التقليدية في الساحة الإفريقية و على رأسها الجزائر،و هذا موقفها التاريخي،و تونسْ التي استعادت تاريخها المقاوم بعد نصرِ ثورةِ الياسمينْ،كما أنَّ للرئيس المنصف المرزوقي شخصيا دورٌ كبير في الموضوعْ،بحكم ماضيه النضالي المشهود و رفضهِ المبدئي للتطبيع مع إسرائيل عربيا و إفريقيا.و هنا يحسنُ التذكير بالنفوذ التاريخي للجزائر في الاتحاد الإفريقي و قبله منظمة الوحدة الإفريقية،فهي من دفعَ باتجاهِ الاعتراف بــ’’الجمهورية الصحراوية’’ المعلنة من قبل جبهة ’’البوليساريو’’،و ذالك رغم اعتراضِ و مساعي دولةَ إقليمية ذات وزنْ هام هي المغرب.و في ضوءِ بقاءِ الموقف الإفريقي على حاله،سيضطر المغرب إلى تجميد عضويته في المنظمة القارية منذ أواسط الثمانينياتْ.و قبل أسابيع فقط، عيَّن الاتحاد الإفريقي رئيس موزمبيق السابق ’’جواكيم شيسانو’’ مبعوثا مكلفا بقضية الصحراء الغربية،و هو ما ندَّد به المغرب و بادر إلى رفضهْ.هذان المثالان ناطقان بنفوذِ الجزائر إفريقيا.فهل من أنموذج على النفوذ الموريتاني؟؟؟؟أرجو أنْ نستعيدَ ذالك النفوذ في يومٍ من الأيام.و هو بالمناسبة ليس مرتبطا بالقوة الاقتصادية و لا العسكرية و إنما بالقوة الأخلاقية و القيمية،فالرئيس الراحل المختار ولد داداه،طيب الله ثراه،استطاعَ قطعَ علاقات إسرائيل بأغلب البلدان الإفريقية بعد نكسة عام 67 !!!!! يجدرُ بمن يُتابع الموضوع أنْ يتساءَلَ عن قدرةِ ولد عبد العزيز على طرد الوفد الإسرائيلي،و إسرائيل حليفٌ حيوي لأنظمةٍ افريقية نافذة في أوغندا،و أثيوبيا،و نيجيريا،و حتى كوت ديفوار و الغابونْ،و بدرجةٍ أقل السنغالْ و غينيا الاستوائية المضفية للقمة.و تدليلا على علاقاتِ الكيان الصهيوني بـهذه الأخيرة،يحسنُ التذكير بمحاولة الانقلاب الفاشلة ضدَّ الرئيس ’’تيودورو أوبيانغ نغويما’’ قبل 9 سنوات،و التي لعب الموساد دورا محوريا في إحباطها. و هنا يحسنُ التذكير بأنَّ ولد عبد العزيز،أشار في مقابلته الأخيرة مع أسبوعية (جون آفريك) إلى أنَّ ’’طلب إسرائيل عضوية الاتحاد الإفريقي سيُبحثُ إذا ما تم قبولهْ’’ !!!! لا يبدو الرجل متشددا في الموضوع،و إنما يَكفيهِ أنْ يخضعَ للمساطر الاجرائية !!!!لكن،و لله الحمد،هناك قوى إفريقية أصيلة (سوداء و بيضاءْ على السواءْ) ترفضُ أخوةَ الكيان العنصري الظالم الذي كان من أهم حلفاءِ نظام (لبرتايد) في جنوب افريقيا،و ساعدَ َفي تصفيةِ عددٍ من زعماء التحرر في إفريقيا. إنَّ اختزال قرارِ طرد الوفد الصهيوني في موقفٍ شخصي لولد عبد العزيز شبيهٌ بنسبةِ اتفاقِ وقفِ إطلاق النار في شمال مالي إلى جهودهْ،و هو الذي اجتمعَ بالفصائل الأزوادية لأقلَ من ساعتين،ثمَّ أُعلنَ وقف إطلاق النار !!!!!
بيد أنَّ قمة مالابو تناولتَ مواضيع أخرى لا تقلُ أهمية عن الجدل حول طرد الوفد الإسرائيلي.فقد أقرَّت القمة قانون محكمة الجنايات الإفريقية التي يريدُ لها القادة الأفارقة أنَّ تكون بديلا قاريا لمحكمة الجنايات الدولية التي اقتصرت ملاحقاتها إلى الآن على القادة الأفارقة من عمر البشير في السودان،إلى أهيرو كينياتا في كينيا. و الحقيقة أنَّ الموقفَ الإفريقي من المحكمة على قدرٍ من الوجاهة،فكيفُ يُعقلُ أنْ يُتابع البشير بتهمة ’’المسؤولية السياسية عن مآسي دارفور’’ و كنياتا و مساعدُهُ بتهمة الضلوع في المجازر التي أعقبت رئاسيات 2007،في حين لا تبتُ المحكمة في جرائم الاحتلال الصهيوني في فلسطين،و لا في جرائم جورج بوش و توني بلير في العراق و أفغانستان،و جرائم حكام ميانمار في حق أقلية الروهينغيا. لكنَّ هذه الفظاعات ’’المُغْـــفلة’’لا تُبرر إفلاتَ القادة الأفارقة الضالعين في جرائم إبادة و تعذيب و جرائم ضد الإنسانية.و من هنا استبشرَ كثيرونَ خيرا بالمحكمة الإفريقية لما تُتيحهُ من إمكاناتِ التوفيق بين إلحاقِ العقاب بالمجرمين و صونِ السيادة الوطنية لدول القارة الإفريقية المسكونةِ تقليديا بعقدةِ الدونية نتيجةِ مواريث قرون الاستعمار الطويلة. جاءت قمة مالابو،لتؤكدَ ترسخ السلوكِ الاستبدادي لدى قادة القارة،فالمادة السادسة و الأربعون من قانون المحكمة تنصُ على تتميع رؤساء الدول و الحكومات و حتى ’’المسؤولين السامين في الدولة’’ بحصانةٍ تامة من أيَّ متابعة قضائية حتى في حالة الضلوع في جرائم حرب أو إبادة عرقية أو جرائم ضد الإنسانية !!!!! لا تُحدد النصوص المنشِئة للمحكمة الإفريقية أيَّ علاقة-تكاملية أو تضادْ- بين المحكمة الإفريقية و محكمة الجنايات الدولية.بإختصارْ أُريد للمحكمة أنْ تكون آليةَ قانونية تقطعُ الطريق على المحكمة الدولية مع ضمانِ نجاةِ القادة الأفارقة من أيَ نوعٍ من أنواع العقابْ. للقادة الأفارقة سوابقُ كثيرة في الاستبداد،لكنَّ أحقها بالعرض هنا-فيما يبدو لي-هي قرارهم الشهير بتجريم الانقلابات العسكرية قبل سنواتْ،مع العلم أنَّهم-بلا استثناء تقريبا- جاؤوا بانقلاباتْ عسكرية أو ورثوا الحكم من إنقلابيينْ !!!!!! كان هدفُ ذالك القرار حماية الأنظمة القائمة،و هنا يحضرني–من باب ذكر الشيئ بالشيئ- اتفاقُ أحزاب المعاهدة مع نظام ولد عبد العزيز على تجريم الانقلابات العسكرية،و هو الذي نفَّذ انقلابين عسكريين و ثالث انتخابي في أعوام 2005،2007،و 2008 !!!!! و قرارُ قمة مالابو يُفسر أيضا الحضورَ المتوثبْ للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي،فهو أحدثُ الانقلابيين عهدا،و قمة مالابو بالنسبةِ له هي قمة ’’التعميد’’ من رجس الانقلاباتْ،ففي أفريقيا تسقطُ جريمةُ الانقلاب بأحد عاميلن:التقادم،أو الانتخابات.و قد نَظم السيسي انتخاباتٍ أجمعَ العالم كلهُ على زيفها،و مُدَّدت بيومٍ ثالثْ،و مع ذالك فقد تطهرَ من رجس الانقلابات. و السيسي كذالك يُواجهُ ميراثَ عامٍ من الدمْ سقطَ فيه نحو 3 آلافِ قتيل،و سُجِنَ نحو 50 ألفْ،و بالتالي فهو أشدُّ أضرابهِ بشرى بالمحكمة الإفريقية،و ذالك ما عكستهُ بـصدق كلمتُه الطويلة المترعة بالأخطاءِ النحوية و الصرفية إلى حدٍ دفعَ الرئيس التونسي إلى التمادي في إظهارِ بخسها حق الإنصات. إنَّ قمة مالابو و مقرراتها ’’الإجرامية’’ الممجدة للجريمة،و إشادةَ السيسي بقيادةِ ولد عبد العزيز للإتحاد الإفريقي،و الحديث عن حضورِ الأول تنصيب الثاني مطلع الشهر المقبل، كلَّها معطياتٌ تعيننا على فهم المعسكر الحقيقي لولد عبد العزيز،رغم محاولات شيعتهْ إقناعنا بأنهُ قائد ديمقراطي انقلبَ من أجلِ الديمقراطية و فرضَ رئيسا باسم الديمقراطية،ثم انقلبَ عليهِ من أجلِ الديمقراطية !!!