في كتابه "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" يعتقد فرانسيس فوكوياما أن العالم المعاصر سينقسم إلى قسمين: جزء "ما بعد تاريخي" يضم الدول الديمقراطية، وجزء آخر يظل دائما في التاريخ ويشمل الدول غير الديمقراطية، مواصلا انقساماته ونزاعاته نظرا لتوفر أسبابها.. وينصح "فوكوياما" الأمم والشعوب المنخرطة في العالم التاريخي باللحاق بـ"ما بعد التاريخي" إن هي أرادت النجاة بنفسها، ولن يتأتى ذلك دون تطبيق الديمقراطية بمفهومها الليبرالي المنتشر في الغرب. كتب "فوكوياما" الياباني المنبهر بالحضارة الغربية، أطروحته هذه بداية تسعينات القرن الماضي، بعد انهيار المعسكر الشرقي، جازما بأن الديمقراطية الغربية تعتبر نهاية مطاف الفكر الإنساني.
ودون الخوض في مدى وجاهة هذا الطرح من عدمه إلا أننا نعتقد جازمين أن ثمة ما يجسد جزءا من نبوءة الرجل في نقطة من هذا الكوكب خاصة في جانبها المتعلق بانقسام العالم إلى "تاريخي وما بعد تاريخي".
لو التفت "فوكوياما" اليوم وبعد عشرين سنة من صدور كتابه "نهاية التاريخ" إلى الضفة الأخرى من المحيط الأطلسي لشاهد نبوءته تتحقق جزئيا على هذه الأرض التي كانت يوما أرضا بلقعا توصف ببلاد "السيبة" وباتت دولة يشار لها بالبنان في هذا الإقليم الذي يسمى بلاد العرب. هنا في موريتانيا، التي شهدت طفرة على كل الصعد سياسيها، واقتصاديها، واجتماعيها، خلال السنوات العشر الأخيرة- حتى نكون أكثر إنصافا- يبدو المشهد مختلفا عما عهد عنها في العقود الماضية، وتبدو الصورة أكثر نصاعة، مما عرف عنها من قبل.. لن نخوض في التفاصيل، لكننا سنقف عند تقسيم "فوكوياما" العالم إلى تاريخي وما بعد تاريخي، لنختزل هذا العالم في الحياة السياسية في موريتانيا، حتى نتمكن من تقريب الصورة أكثر وفهمها بشكل أوضح.
عام 1992 وتحديدا في الـ24 من يناير دعي الناخبون الموريتانيون إلى صناديق الاقتراع لانتخاب رئيس الجمهورية، حينها لم تكن هناك لجنة مستقلة ولا بطاقات تعريف ولا مراقبون ولا هم يحزنون، فاز الرئيس المرشح أنذاك، وأعلن منافسوه أو أحدهم على الأقل رفضه الاعتراف بالنتائج، ليقرر مقاطعة الانتخابات النيابية التي تلت ذلك في مارس من نفس السنة. ودون تقديم تنازلات لأي جهة كانت عاد من جديد للمشاركة في نيابيات 1996 يجر المعارضة الموريتانية وراءه، كانت النتائج هزيلة، واستحوذ الحزب الحاكم كما هي العادة على أكثر من 99% من مقاعد البرلمان والمجالس المحلية.
استمر الحال على ما هو قرابة 16 عاما، وما بين كل استحقاق وآخر، كانت الشرطة تستضيف المعارضين أياما وأسابيع، وكانت قاعات المحاكم هي منبرهم الوحيد المتاح، فوسائل الإعلام الهجينة أنذك كانت هي الأخرى تعاني شح الوسائل وسيف الرقابة والحظر والمصادرة والسجن أيضا.
في الاستحقاق الرئاسي الموالي 1997 تقررت العودة لسلاح المقاطعة أيضا، وفاز الرئيس في ولاية ثانية، بنسبة أعلى من سابقتها، وكما في المرة السابقة عاود المعارضون الكرة بالمشاركة في الرئاسيات التالية 2003 دون أن يجلس أحد معهم للتفاوض، وبعد أن تم حل أكبر حزبين فاعلين في الساحة (اتحاد القوى الديمقراطية، العمل من أجل التغيير) بعد حل حزب "الطليعة" الوطنية بقليل.
هذه المرة كانت نتائج قادة المعارضة أسوأ من سابقاتها، فقد تراوحت بين 3 و6% من أصوات الناخبين وطبعا لم يقبلوا بالنتائج واتهموا النظام بالتلاعب.. لكن رد الفعل هذا لم يتجاوز هذا الحد. أسفرت هذه "الهزائم" المتلاحقة عن حالة من الانهزامية باتت صفة تلازم هذا الجيل الذي عايش تلك الحقبة، وهي حالة يستدعي الخروج منها جلسات مكثفة مع أخصائيين نفسيين واجتماعيين، لإقناع هؤلاء بأن الأمور لم تكن كما كانت. وجدت السلطات التي أطاحت بنظام ولد الطائع صيف 2005 صعوبة بالغة في إقناع قادة "معارضة" اليوم بأن التغيير قد حصل فعلا، لذلك لم يكن بمقدورهم مسايرة الركب وبقوا حيث هم "في التاريخ ودورته المفتوحة" على لغة فوكوياما، في الوقت الذي انتقل المجتمع الموريتاني كافة إلى "ما بعد التاريخي".
هذا الانتقال ساهمت فيه الثورة التي أرسى النظام القائم حاليا دعائمها في مجالات السياسة والاقتصاد والحريات العامة، فالذين عاشوا هاجس المصادرة وعايشوه لعقود لن يستوعبوا تحرير الفضاء السمعي البصري، ولن يسايروه، والذين أدمنوا ظلام السجون وسنوات القهر، واستكانوا له قد يخيفهم الفضاء المفتوح وضوء البدر ليل تمامه..
الأزمة التي يتحدثون عنها تمكن في أن بعضهم لم يستوعب التغيير، ولم يصدق أن في موريتانيا ثورة قلبت المعادلات التي كانت قائمة، وغيرت مسار تاريخ هذا الجزء من الوطن العربي، يوم باكرت الجرافات متاريس سفارة الكيان الصهيوني في نواكشوط، غرة شهر مارس 2009 ويوم فاز الرئيس محمد ولد عبد العزيز في انتخابات يوليو 2009 وبدأت القنوات الفضائية والإذاعات المسموعة تملأ فضاء موريتانيا الجديدة، ويوم وضعت إفريقيا ثقتها كاملة في رأس النظام الموريتاني وعهدت إليه بحمل همومها وحل مشاكلها.. والقائمة طويلة.
لب الأزمة التي يتحدثون عنها أنه في موريتانيا من يريد للموريتانيين مسايرة العالم ويدفع بهم إلى ذالك السبيل، وفيها من يريد لهم أن يبقوا حيث هم "في التاريخ ودورته المفتوحة"... وشتان ما بين الاثنين.