حين يصبح الكذب ثقافة يتعاطاها الجميع وينخرط فيها كل من اعتلى منبرا أو صعد خشبة أو أطل عبر شاشة,وحين يتعود الجميع على هذا الواقع المكذوب المغشوش الموغل في الانزياح والانحياز إلى كل ما لم يكن وليس بكائن, حين يصبح هذا هو الواقع الذي نعيشه ونتنفسه و ننتظره مع إشراق كل يوم , وننام على وقع تفاصيله المملة وتتسرب جزيئاته إلى أحلامنا فتنغص علينا تلك الفسحة الوحيدة التي ننشد فيها الراحة بالابتعاد عن هموم هذا الوطن المسكون بروح الجن والسياسة والأدب والفقر و الظلم والمرارة, حين يكون كل هذا وغيره فلا تتعب نفسك بالبحث عن الحقيقة فلن تجدها, كل ما عليك هو أن لا تصدق أحدا حتى وإن قيل إن للحقيقة عدة أوجه, فأوجه الكذب هي الأخرى عديدة بل وأكثر تشعبا.
يكذب أصحاب الموالاة فيصورون الواقع (الذي تعرفه) على أنه الدرجات العلى من الجنة التي تحلم بها و تلهج ليلا ونهارا بالدعاء من أجلها فكل شيء متوفر وأنت وحدك المشمول برعاية صاحب الرعاية ومدبر شؤون الرعية . سواء ا كنت شابا أو شيخا أو امرأة أو طفلا أو معاقا, فسيادته لم ينس أحدا و صدره متسع للجميع وهو يريد الخير لنا جميعا . تجد نفسك مجبرا على أن تصدق , إلا إذا كنت مكابرا أو معاندا. تحاصرك الأدلة المشفوعة بالصوت والصورة , والمستندات والتقارير الصادرة عن جهات محايدة لا شأن لها بالكذب والتزوير , كل شيء من حولك يؤكد أن الأمور تجري وفق ما هو مرسوم لها مسبقا ولا داعي للقلق.
وفي مقابل ذلك تجد المعارضين للنظام يرسمون صورة للواقع تهوّل فيه وتزيد من مآسيه حتى كأن السماء قد أطبقت على الأرض, فالفساد منتشر بشكل لم يسبق له مثيل ,والناس يقضون الليالي الطوال في العراء بلا مأوى والجوع يقتلهم في الشوارع وعلى بوابات المستشفيات. تقدم الأدلة على فساد النظام وتورط رموزه في عمليات النصب والتحايل والاتجار بالمخدرات وكل التهم التي تقشعر منها الأبدان وتنكرها العقول ,ويصدق المواطن هؤلاء كما صدق أولئك ,وكيف لا يصدق وقد جيء بالتسجيلات التي تداولها الجميع وأصبحت موضوعا للتفكه والتندر بين الأصدقاء في الصالونات والمقاهي والمكاتب ؟!
هذا هو واقع المواطن بين الموالاة والمعارضة في ظل عصر الانفتاح وحرية التعبير الكاذب . الكل يراهن على طيبة هذا المواطن وقدرته على تحمل الكذب الفاضح , لكن المشكلة تكمن فيما ستؤول إليه الأمور في نهاية المطاف من تصور خاطئ عن هذين المفهومين (الموالاة والمعارضة) حيث تصبح الموالاة استماتة في الدفاع عن الطرف الأقوى ,الذي هو النظام الحاكم, هذا الطرف الذي لا يخطئ وإن أخطأ فأخطاؤه مبررة وتخضع لمنطق التوازنات ,الطرف الذي يمتاز أتباعه بالتفاؤل الزائد والاستغراق في الرومانسية الحالمة والتحلي بمبدأ الطاعة العمياء,أما المعارضة فستكون ذلك التخندق وراء جبهة السلبية والنظرة السوداوية للواقع, فلا حياة ولا أمل ولا فائدة تنتظر من الطرف المقابل والحل الوحيد هو التخلص منه بأية طريقة وبأي ثمن . المعارضة عند هؤلاء هي العناد والعزة بالإثم وإشاعة الفاحشة.
إن ممارسة السياسة بهذه الطريقة تعد مضيعة للجهد والوقت في سبيل مهاترات لا تخدم الوطن ولا المواطن ولا تعود بالفائدة لأي طرف. صحيح أن لكل الحق في الدفاع عن وجهة النظر التي يراها مناسبة, لكن وفق ضوابط محددة وحسب مرجعيات ثابتة تنطلق من مصلحة الوطن أولا وأخيرا . إن ثنائية الصراع و الإدماج لا تعني بالضرورة صراع الديكة كما لا يمكن أن تعنيّ المهادنة والسكوت على الظلم , فبين هذا وذاك متنفس لأصحاب الضمائر والعقول الراجحة . هؤلاء هم من يعوّل عليهم من أبناء هذا الوطن وهم الأبقى ذكرا والأكثر نفعا و الأقل عددا بين طبقتنا السياسية للأسف الشديد.