“كانت تلك الأيام السرتاوية حِبْرا فَريدا وورقا بلا سطور.. نخط عليه حروفا بلا هويّة أو اتجاه.. رحلت معنا الذكريات… بلا ملامح.. إنها أصوات بلا أصداء، كلما أحاول العودة إليها كي استجمع منها ما يمكن أن يُصاغ أجدني أمام غابة بلا أشجار لا تُفيد حاطبا، ولا تُعطي ظلا لمن لَفحته رِياح القبلي، كُنّا جَميعا كائنات بلا وجوه.. وبلا اتجاه”.
هكذا وصف مندوب ليبيا السابق في الأمم المتحدة عبد الرحمن شلقم أيامهم في “سرت” المدينة الإداريّة آنذاك، في كتابه الجديد “أشخاص حول القذافي” الذي تنشره دار مدارك للنشر ودار الفرجاني، وهو كتاب أول يُقَدِّم لكتابين آخرين، من مذكرات شلقم.
لو شئتّ أن تصف بكلماته السرتاوية، كل الوُجوه الموجودة في هذا الكتاب، وغالب تفاصيلهم، لك ذلك. هم قرابة الأربعين اسما جمعتهم دفتا الكتاب، كما جمعهم العَمل مع القذافي، اختار شلقم أن يلمهم جميعا في عنوان مانع جامع “أشخاص حول القذافي”، برّر اختيار لفظ “أشخاص” بأن اللفظ يجوز للذكر والأنثى، والخيّر والشرير، والبر والفاجر، ولا ينطوي على مدح أو قدح.
مَن في هذا الكتاب أنتجهم القذافي وتعامل معهم ولهم دور رئيسي وقفوا معه إلى آخر لحظة. كلهم كذلك إلا شلقم.
لماذا تكتب يا عبدالرحمن؟ شلقم وُلِد في 1949 في الغريفة جنوب ليبيا لأسرة مُحتَرمة، قابل القذافي في 1970 في مصر، وأوصى به خيرا، عمِل في 1973 في صحيفة الفجر، أعجب به القذافي وكانا يتجاذبان الشعر والأدب، وٌلِّي منصب وكالة الأنباء في عام 1980 وأمين الإعلام الثوري في 1981 وسفير ليبيا في مالطا عام 1984 ووزير الخارجية عام 2000 ومندوب ليبيا في الأمم المتحدة سنة 2009. قال شلقم يوما للعقيد القذافي (أنا لن أكتب مُذكراتي، المُذكرات في الوطن العربي شهادات متأخرة، تخلو من الموضوعية تنحو نحو التبرئة.. تبرئة الذات)، وكان صادقا في وصفه، فكُتّاب المذكرات يخفون ما يخفون، ويبررون لا أكثر ويتمنون، ولكن ما الذي حدث وغيّر نظرة شلقم؟ يقول “السّياق أخذ مجرى لم يكن في الحُسبان فزالت أبجديات وتغيرت بديهيات، وتولدت حروف أخرى، فأضحى كتابة ما حدث فرض عين”، ما تقرأه في هذا الكتاب لا يرقى لمحاولة تبرئة بقدرما هي صرخات أضحت في حكم الواجب لن تغير التاريخ، ولكنها ستصنع الفارق، على الأقل بالنسبة لشلقم، ولشلاقم آخرين.
لوحة ترسم وجه القذافي
خارطة الأسماء تشبه لوحة الغلاف، أسماء كلها تضافرت وشكلت خيوط القذافي، كانت كما يكرر شلقم، أسماء صنعها معمر واكتشفها، وأعاد انتاجها، استخدمها كلها، في طيات رحلة كل واحد منهم نبرة ألم وأنين خاص، تشكو أن القذافي، أخذهم لحم، ولم يتكرم عليهم بالرمي وهم عظم! بل رماهم في مطحنة 17 فبراير (شباط)، وماتوا على أبواب حصونه، واحترقوا في محرقة الغضب تحت سلاح الناتو أو غرقوا في حمام الدم!
بدأت خارِطة الأسماء بمفتاح كعيبة المصراتي، أول من فاتَحه القذافي بعَزْمه على إسقاط الملك، ونَجح في تَجنيد الكَثيرين، كان في خانة المُنَفِّذ الصّامت ولم يكن دمويا. بعده تحدّث شلقم عن محمد بلقاسم الزوي ابن رئيس وزراء ليبيا السّابق، تعرّف على القذافي في سبها، عمل في القضاء، ساند ثورة الفاتح في 1969، كان كريما كشيخ العرب، له صلات مُتسامحة وطيّبة مع جيران ليبيا، هو عرّاب العلاقات اللّيبية المغربية، بل مُنقِذها، فحينما دعم القذافي مُعارضي الحسن الثاني، ودعم الحسن معارضي القذافي في تشاد، واستعرت المواجهات تَمكّن الزوي بمساعدة قَريبه محمد عثمان الصيد من استعادة العلاقات، بعد ثورة 17 فبراير وقف مع القذافي، وهو الآن في المعتقل.
البغدادي المحمودي.. صديق نادم
محطة توقف فيها شلقم كثيرا، كانت هي البغدادي علي المحمودي، الرجل الذي حاز الألقاب، فهو بغدادي وقذافي ومقرحي وتونسي، استغلّها كلّها، وَرِث كرمًا حاتميًا، عَمل في اللّجان الثّورية، وبعد مؤتمر 1975 وهو العام، الذي أشيع فيه وجود مؤامرة استغلّها القذافي لتصفية خصومه وكل من يعارضه، تقلبت المناصب، واختلف عليها البغدادي، في 2003 عُيّن البغدادي مُساعدا لرئيس الوزراء الدكتور شكري الغانم، الاقتصاديّ اللّيبي الذي أُعجِب به سيف الإسلام القذافي، ودَفع به وزيرا للاقتصاد، كان شُكري يَحظى بدعم سيف الإسلام، ولكن في العام 2006 اختِير البغدادي ليكون رئيسًا للوزراء، وحُوِّل شُكري ليكون في قطاع النفط. فسّر شلقم ذلك بأنّ شُكري كان يُناقش (القائد) ويكثر الحِجاج، ولا يَلتزم بل يبدي الآراء فلم يكن الأداة الطيعة في يده أو يد أبنائه، وعلى الرّغم من قُربه من سيف الإسلام، إلا أنّ المَرحلة التي أعقَبت العام 2006 كانت مَرحَلة مهمَة، ففيها انفتحت ليبيا وخَرجت من الحِصَار وبدأت أبواب الاستثمار وتَدفُق الأموَل، والبغدادي ليّن هيّن، وأولاد القائد يريدون في هذه المرحلة من (لا) يقول (لا). أخذ القذافي وأولاده ما يريدون ولكن سُلطة البغدادي تعاظمت، فقد انشغل القذافي بزعامة العالم والوصول إليها، وانهمك سيف في السّفر ولم يكن يَقض في طرابلس إلا القليل والقليل من وقته.
للبغدادي علاقة خاصة بشلقم، فقد سانده في وزارة الخارجِيّة وتَقَاسَم مَعهُ الكَثِير من الاهتمامات، حكَى كيف تقاسَما الأوهام والضّحك عليها، يُعلّق على الفرح بتوّلد الاتحاد الإفريقي الذي خَرَجَ من رحِم أزِّمة لوكربي..”كُنا سِرنَا واجمين نَستَعِيد ما أبدعه الخِدَاع العَربي، في تَحوٍيل الهَزائم إلى انتصارات”، بعد ثورة 17 فبراير نَصحَه، فهو يعلم أنه أكثر من تمت إهانته من قِبل أبناء القذافي، لكن البغدادي دافع عن النظام وهاجَم شلقم، اعتُقل في سبتمبر(أيلول)، في تونس، علّق شلقم “سيبقى يلعق دم اللّعنة التي يقطر فوق رأسه”.
مهندسون.. كاذبون.. ونساء
بين رِجَال القذافي شخوص انتَقَاهم معاونوه، مِنهم المُهندس جاد الله عزوز الطَلحي، الذي اكتشفه عبدالسلام جلود. الطلحي رجل الصّناعة والسِّلاح، كان مُثَقفًا ومُترجِمًا بَلِيغًا، تَنَقّل بين المَناصب، بنى لِنفسه احترامًا خاصًا، يُراجع حتى أوامِر القذافي، إبّان أزمة العلاقات مع سويسرا كان مندوبًا لليبيّا في الأمم المتحدة، أرسَل إليه القذافي خطَابًا ليكون في نَصِّ الكَلمّة، يدعوه فيه للدعوة لتَقسيم دُول الاتحاد السِّويسرِي! لم يَنصَع للأمر، وعاد إلى طرابلس. وغيرها من المواقف، لذلك استغرب شلقم، وقوف رجل نزِيه مِثلَه مع القذافي بعد ثورة 17 فبراير!. المهندس الآخر هو عبد المجيد القعود، الذي اشتهر بحفظ الأرقام، وتدبيج اللغة، لا يتورع القذافي عن وصفه بالكذب، بعد الثّورة اعتقل، علّق شلقم “أنا لا أشفق عليه فذلك مقامه الذي يستحق.. ولكني أشفق على الضابط الذي يستحق”.
بين الأشخاص، حول القذافي نساء من فولاذ، وأخريات حرير، تقف في مقدمتهن فوزية شلابي، الكاتبة والمثقفة، أثّرت على معمر ولها علاقة خاصة به، يُشاع أنها هي من أشارت بتحويل السّفارات إلى لِجان تمثيل شعبيّة، تزوجت أربع مرات لكل زوج قِصة فصّلها شلقم، ولكلِ واحد منهم حكاية، كانت جميلة ومتحررة وثائرة ومتمردة، اصطفاها معمر لأدوار خاصة، استغلها واستغلته، بعد الثّورة حقق معها الثُّوار وتَركوها. ومن بينهنّ، هُدى فتحي عامر، من بنغازي انخرطت في حركة الرهبات الثّوريّات، ولجت العنف بشتى أشكاله، عيّنها القذافي في مناصب إشرافية في بنغازي، كانت رسول استفزاز، تستفِز كل من يُغضِب القذافي في الاجتماعات. حَرق ثوار 17 شباط منزلها، وأخريات لم يَذكرهن إلا بين الصفحات، لم يُبوب لهنّ مثل مبروكة الشريف.
العائدون.. القذاذفة.. الأقاربشلقم الجديد يرى ليبيا، بِعيُون قَدِيمة، حملت كل المباضع لعمليّة التّوثيق، فهو يُصِر على تَشرِيح النّفسيات، بالقبِيلة، والأسرة، والدوائر الفقيرة والغنية، يُكرر أن بَعضهم فرَّ من ليبيا إبّان الاستعمار وعاد بعد ورود الخير والبترول، عائِدون من تونس، ومن مصر، ومن تشاد، من الأخيرة كان العائد أحمد إبراهيم منصور القذافي، قريب القذافي انتمى للاتجاه الإسلامي في المرحلة الثانويّة في سبها، ساهم في تنظيم لقاءات القذافي مع الطلاب لإدارة مواجهات 7 إبريل (نيسان) الدامية التي قمعت الطلاب الذين يعارضون القذافي في الجامعات في السبعينيات، تمكن من لعب دور خاص في تمكِين سُلطة الشّعب في 1977، كان سيف الإسلام يُسميه بأحمد البهيم. تولّى أمَانة مؤتمر الشّعب، ظلّ في سريالية قذافيّة بامتياز، إلى أن اعتقله الثوار، فكان أول ما قاله لهم “اسسوا مؤتمرات شعبيةّ!”.
من القذاذفة أيضًا الزناتي محمد الزناتي القذافي، خريج الجامعة الإسلامية في البيضاء، أولِع بالمال والسيّارات. ومنهم أحمد قذاف الدم رجل كل الأدوار في الظاهر، عُين سفيرًا في القاهرة ومناصب أخرى، هو قارئ جيد للسياسة الخارجية، لكنه مسكون بحب الظهور، لم يتزوج، وهَب معمر حياته. أخوه سيد محمد قذاف الدم، وهما ابنا محمد قذاف الدّم الضابط الذي طالما أوى معمر في صباه، عمِل سيد في سفارة ليبيا في لندن وأسرف في صرف المال، له صلة بالصادق النيهوم، تعرّض لحادث أثّر فيه طويلاً، قضى سنواته الأخيرة كئيبا معتزلا في سرت، في منصب إشرافي، انضم ابنه محمد للثوار، وبقي هو مع معمر.
كلهم أدوات.. أهل الشعر والفكر والعنف
حوّل القذافي الصحافين والمفكرين والشعراء ورجال العنف، إلى أدوات، أجاد العقيد استخدامها، لخدمة مشروعه، عمر الحامدي كان الصحافي المُثقف، والضّليع، عمِل على تأسيس صحافة جديدة في بداية الثّورة، شكّل أجسامًا ثقافية مُتوالِدة مِنها المَجلِس القومي للثقافة، والمؤتمر القومي العربي، وبعد أن أدار القذافي ظهره للعرب، عيّنه سفيرًا في الجزائر، وبعدها السُّودان، وقف ضد الثّورة وسانَد العقيد! مثله محمد أحمد الشريف الحاصل على الدّكتوراه مِن أميركا، كان الوجه الإسلامي الأبرز في ليبيا، دكتور في الفلسفة وسليل أسرة شريفة وعالم دِين، عُيِّن في مؤسسة الدعوة الإسلامية، بموارِدها الماليّة الضّخمة، ذكر شلقم أن الشّريف انضم للإخوان في مرحلة وجوده في أميركا، ولكنّه لم يُكن ناشِطًا وأنكر ذلك، لذلك كان لديه رهاب من ماضِيه الإخواني، فظلّ يتعاون مع الأمن في كل صغِيرة وكبيرة في إدارته لمنظمة الدعوة الإسلامية، يُشِير شلقم إلى أنّ الشريف كان هو الذي يتواصل مع عبد الرحمن العمودي، ولمّح إلى تورّطه في محاولة اغتيال الملك عبد الله بن عبد العزيز، الذي كان وليًا للعهد في السّعودية – انذاك -. استعجب شلقم وقوف الشّريف مع القذافي! كثيرون أقل منه امتهنوا الفكر منهم محمد الهتكي، تسلّق وسمّى نفسه مُفكِرًا نظّر في كل شيء، شارك في مُحاكَمة شيخ يُدعى البشتي. شعراء القذافي كثيرون منهم علي الكيلاني القذافي، ومتحدثوه أكثر منهم، المهدي إمبيرش الذي تولى وزارتي الثقافة والتعليم وعمل سفيرا في ألمانيا وإيران، انتهى به الأمر في المعتقل.
مفكرون ولكن.. مصير واحد
أدار القذافي الذين حوله، استغلّ ما في نفوسهم وملكاتهم، كان يحفظ خرائطهم النفسية يتكلم مع كل واحد بطبقة صوت مختلفِة، حاولوا أخذ ما يُمكنهم ولكن القذافي كان يأخذ أكثر، وقف شلقم كثيرا مع شخصيات مثل إبراهيم الغويل المُفكر الذي تقلّب مع التيارات بعد النّكسة، أراد أن يكون هيكل ليبيا، كرّس فترة من حياته لانتقاد محامي القذافي في لوكربي، إلى أن اقتنع القذافِي وعيّنه مُحامِيًا للاستئناف. وقف مع القذافي إلى أن هرب. مثله وبدهشة أكبر الدكتور رجب أبو دبوس، الفيلسوف الحقيقي الذي ترك الفلسفة وتفرغ “لتفسير” الكتاب الأخضر، انتهى به الأمر معتقلاً، لم يُسعفه حظه ولا حلمه أن يكون مثل أدعياء الشعر والفكر – حسب شلقم – كمحمد سعيد القشاط الشاعر، سفير القذافي في الرّياض، الذي ولّى هاربًا. ولا حسّونة الشاوش سفيره بالكويت، الذي أوى إلى الحذر، ولما اندلعت الثّورة، التزم الصمت، وتأمل المتصوفة، صمت، لم يقل أي شيء! قريب منهم رافع المدني أصبح ضابط الاتصال بين حركة اللجان الثورية والمؤسسات الأمنية الليبية وصل إلى القذافي بفضل مبروكة الشريف، وصار مبعوثه الخاص. ومنهم إبراهيم عبد الرحمن بجاد.. من أمناء السر وطلائع الثوار، لعب دورا إعلاميا مهما تولّى نشر الكتاب الأخضر، كرمه العقيد وقربه، أصابه اليأس بعد أن رأى خطايا العقيد وتجاوزاته.
أهل القانون.. الشريعة الخضراء
“درس في كلية الحقوق في بنغازي، أو القاهرة”. كانت كلمة مفتاحية لكثير من الشّخصِيات. القانونيون في العالم الثالث كانوا نجوم البرلمانات في الخمسينات والستينات، ورجال الطريق إلى الشّهرة والسّياسة، لم يكن ذلك طموح إبراهيم بوخزام الحسناوي، فهو هادئ الطباع وقنوع، لكنه سُرعَان ما تَولّى صياغة القوانين التي يُصدِرها مؤتمر الشّعب العام، واقترب من عبد السلام جلود، فاختير وزيرا للتعليم العالي، حاول إحداث إصلاحات، وكاد يُصدِّق أنّ بإمكانه الإصلاح، إلى أن زجره مُعمّر وقال له دَع كل شيء كما هو، فانزرع فيه رُعب عمِيق، يُكثِر من انتقاد القذافي في المَساء، ويَرتعِد مِنه صباحًا، رُبما ذلك السّبب في وقوفه مع القذافي ضِد الثَّورة! كَثيرون تقاسمهم الرُّعب والرغب، مِنهم أيضًا محمد المدني الأزهري الحسناوي، الرّجل الذي عمِل في المَثابَة العالمِيّة مع موسى كوسا، ونشط بعدها في الساحة الافريقيّة، ظلّ ينتقد الممارسات العنيفة، لم يُدَافِع عن نِظَام القذافي بعد 17 فبراير، لكنّه لم يَقفِز من مركبه. كذلك عبد العاطي العبيدي الرجل المُتسامِح عرّاب الإعلان المشترك بين ليبيا وإيطاليا في عام 1998 الذي اعتذرت فيه إيطاليا لليبيا عن سني الاستعمار، كان حزينا لأنه أضاع العمر مع القذافي، قال لشلقم في آخر لقاء، في نوفمبر(تشرين الثاني) 2010 لِمَاذا تأتي إلى هُنا ابق في نيويورك، اهتم بصحة أولادك وكتاباتك، انت محظوظ، اترك لنا هذا الجحيم، لم ينطق ضد الثّورة، ولكنه بقي مع القذافي، اعتقل في أول سبتمبر (أيلول)2011.
رجال العنف.. والمؤامرات
رجال العنف من أدوات معمر أيضًا، العُنف والمُؤامرات، أما العنف فرجله عبد الله السّنوسِي، الذي دَرس في مصر، كان في صِباه هادئاً وخجولاً، انتقاه معمر للدائرة الخاصة، وأصبَح عدِيله تحوّل نحو العُنف، اكتسب المزيد من الثقة بعد أن حَاوَل القذافة التآمر على (القائد)، وتضاعفَت بعد أن كشف مؤامرة ورفلة، قاد عمليّة تقديم سيف الإسلام، كورِيث، فَتح النّار على ثوار ليبيا، فاتهمته المحكمة الجّنائيّة الدّوليّة، صِنوه في العنف هو التّهامي خالد الورفلي، الذي تولَى الأمن الداخلي، عارض قرار الإفراج عن الإسلاميين وأخبر القذافي وسيف الإسلام بخطورة القرار، تورّط وأبناؤه في فساد، بعد الثّورة هرب. أما المؤامرات فملكها هو خليفة احنيش القذافي، الذي أشار على القذافي بتغيير اسمه من أبومنيار إلى القذافي، وهو مسكون بالمؤامرة، اكتشف مؤامرة موسى أحمد وآدم الحواز في 1971، كان نسيجا من مؤامرة يُقال إنّ له أصلاً ألمانيا، هرب بعد الثّورة، بالأحرى اختفى ربما في مؤامرة من مؤامراته.
رجال العنف كُثر غالبهم من اكتِشَاف أحمد إبراهيم، منهم مصطفى الزَايدِي، نَشِط في التّعذيب، وملاحقة المُعارِضين خارِج ليبيا، كرّمه معمر، بعد الثّورة فتح بيته ومزرَعتّه للقائِد، كان مفتاح شخصيته هو الهوس الثوري. مثله نصر المبروك مسؤول ملف الزندقة، لم يُمارِس شيئا غير العنف، هرب إلى مصر بعد الثّورة. ومنهم من انضم لاحقًا للعنف المباشر، مثل رمضان بشير مرافق القذافي، الغني الذي كان من أتباع حنيش القذافي، أرسله القذافي سفيرا للسودان، بعد الثّورة دفعه القذافي ليتقدم الصفوف فاقترف في مصراته ما اقترف. أمّا الطيب الصافي فكان من رجال عبد الله السّنوسِي، مثل سعيد محمد راشد حشة فكانا من أشد العناصر عُنفًا، قتل راشد، عزالدين الحضيري كما ذبح الرائد المحيشي، وفجّر مرقص برلين، بعد الثّورة ذهب وأولاده إلى باب العزيزية، وعند البوابة أطلق الرصاص حماسًا، فأرداه الحرس قتيلاً.
لائحة الندامى.. لا يشفع الندم عبدالقادر البغدادي، قارِئ جيد، كان قريبا من عبد السلام جلود، عُيّن سفيرا في بريطانيا، بعد عودته تولّى صحِيفة الشمس، له ابتسامة مُتسامِحة ولغة وِفاقية، تحامل عليه سيف الإسلام ومنعه من تولي منصب وزير التعليم، تبّخر إيمانَه بكل شيء، بعد الثّورة مات في معركة حاولت فيها كتائب القذافي تحريره من قبضة ثوار مصراته. قريب من الدبلوماسيين سعيد عريبي حفيانة وهو أمازيغي، عمِل مساعدًا لوزير الخارجيّة، كانت عقدته أنه لم يستوزر، عيّن سفيرا في العراق، ثم رئيسا لجامعة الناصر الأممية بطرابلس، هرَب إلى مصر بعد الثّورة.
اختار القذافي، رجاله لكل مرحلة، عمار الطيف أحدهم، قدمه قديما وأخره أخيرا، لأنه كان دائم الانتقاد لممارسات أبناء القذافي، ولأنه تزوج من زوجة ثانية، برغم ذلك وقف مع القذافي. من الذين قدمهم القذافي وأخرهم أيضًا سليمان ساسي الشحومي وهو من مصراته اختاره القذافي، ليكون من خارج منظومة اللجان، ليكون عينا عليها فصعّده، وأوصله ليكون وزيرا للخارجية، في السنين الأخيرة تذمر مِن الفَسَاد والوضع في ليبيا، وتَخصص بالغمز واللَمز، حاول استمالة أهل مصراته بعد الثّورة، فشل ثم هرب. ومنهم أبوزيد عمر دوردة الذي عيَن محافظًا لمصراته ووزيرًا للإعلام، وكان موفد معمر الخاص، وتولَى وزارة الخارجية، وعُيَّن مندوبا لليبيا في الأمم المتحدة، لم يكن من الفاسدين أبدا، عُيِّن رئيسًا لجهاز الأمن الخارجي، في زيارة شلقم الأخيرة لطرابلس شكا شلقم للقذافي سوء الحال، وأخبره بتأزم الوضع، وجلس مع عبد الله السنوسي، وأبوزيد، كلهم تقاسموا نفس المخاوف، كان السنوسي أكثرهم تشاؤما، بعد الثّورة، وقف دوردة مع القذافي، اعتقل.
وأنت يا فالح؟
كان حصاد السنين هو الزرع الذي لم يزرعه، وكانت آلامه لذنوب لم يرتكبها، ارتكبته؟ ربما.. لكنه فعل كل شيء، رأى الدنيا كلها، ورأى الجميع، لكنه لم ير ذاته، وثّق شلقم وترك الباب مواربًا، كتب بصوت عال، وسيكتب ولن يكبت خوالجه أبدًا، علّها تبيّض شكوك السواد، حرّض الناس على الكتابة. هو دافع عن نفسه، وقدّم دفوعات دبلوماسية، فهل يفعل الآخرون مثله.
الكتاب باختصار كان سيرة لكل من أراد أن يقرأ ليبيا القديمة، فيها ما تشاء من نميمة سياسية، ماتعة، مدججة بالألغام والأسرار الشخصيّة، المحرّضة، صيغت بلغة دبلوماسية، وقانونية، أحيانًا يصلك معنى كل شيء، دون أن يقول – شلقم – قانونيًا أي شيء، الكتاب مقدمة مستحقة القراءة لمذكراته التي ستكشف الكثير. وتمتع الكثيرين من عشاق الشعر والأدب والأسلوب السّاحر.
السؤال، هل ستسجن المعلومات المُفرَج عنها ليبيا في فترة الماضي؟ أم سيتمكن أهلها من الخروج إلى فضاء المستقبل الملغوم بالأصولية والانفجار والبترول والبطالة، سعيًا في تجاوزه؟ والجواب – أيًا كان – لا يهم، المهم أن يدرك الليبيون أنّ ليبيا تحتاج إلى هواء جديد، ورئة جديدة، تتسع للخلاف، وتسمو بالتسامح والمحبة، لتكون ليبيا الغد، جديدة، وحرة وآمنة، بأشخاص من حولها، لا حول زعيم أو قبيلة أو مدينة، فقط حول الوطن!