منذ نشأة الدولة الموريتانية الحديثة والتعليم على رأس قائمة المشاكل المطروحة على الأنظمة المتعاقبة ، ورغم ما أقيم به من إصلاحات وما أهدر فيه من جهود وإمكانات عبر عمر دولة الاستقلال . يظل التعليم في بلادنا يراوح مكانه بل يعود إلى ماقبل ذلك أحيانا .يأتي وزير ويستجلب معه إصلاح ولا جديد مؤسسات متهالكة ...أساتذة متمردون ...ومقررات دراسية ضبابية لايفهمها طاقم التدريس فكيف بالمتلقي ...وطلاب حولوا المدارس إلى نواد للعشاق ومسارح لعرض الأزياء والرقص على الهواتف الصينية .
بناء على كل هذا فإنني أدعو نداء استغاثة إلى النخبة الوطنية وفق الاستعجال وليس في الجريدة الرسمية بعيدا عن تكميم الأفواه وإسكات الصبيان الذي ما فتئ نظامنا الحالي يمني به أحيانا وينسينا أحايينة أخرى إلى التفكير بجدية في التربية والتعليم ، وفتح حوار اجتماعي عام و جاد ومختص حولها والخروج باستنتاجات عاجلة ومتوسطة واستيراتيجية بعيدة المدى ، فالتعليم أهم من السياسة وقد فتحنا فيها (.......) مع أن التعليم أصل والسياسة فرع . ونحن نعلم ضرورة أنه مالم تنشا أجيال صالحة تربويا وتعليميا فان التفكير في نخبة سياسية غير وارد ، كما أنه ليس من المسؤول تاريخيا وأخلاقيا أن يتجاهل أهل الرأي والدراية في مجتمعنا اعوجاج المبنى الذي ستقيم فيه أجيالنا المستقبلية ،ونحن نعلم ضرورة أنه سينهار على رؤوسنا بحكم القرائن المعاينة .
ولن أركن إلى التنظير البعيد رغم أنه هو الذي يقود العالم .لأن مشكلة التعليم من صنف المشاكل الملحة التي يجب أن نبحث لها عن حلول عملية وعاجلة.بسبب ما ينجم عن فساده من فساد الإنسان ، وما يترتب على صلاحه من صلاح النشء الذي هو قوام المستقبل. ومن المؤسف أن أنظمتنا السياسية لم تتوصل حتى الآن إلى اسم جامع مانع ثابت ودقيق للوزارة المكلفة بالتربية والتعليم ، وحتى لم يفهموا الهدف المنشود من خلالها .
تارة وزارة عامة للتهذيب مكلفة بتطبيق مناهج تم استيرادها لتحقيق أهداف سياسية أيديولوجية لحساب رؤية داخلية معينة، وتارة لاعتبارات خارجية وحملات علاقات عامة ، يراد منها إرضاء هذا الطرف أو ذاك مما يدل على ضيق أفق المخططين للدولة وبساطتهم، بعيدا عن وجود تفكير تركيبي يبني الحاضر على التراكمات الايجابية في الماضي وينقد التصورات والسياسات الخاطئة،ويتلافى الخلل في التطبيقات السابقة .
- وأحيانا وزارات مختلفة ،الهدف من ورائها توفير فرص عمل لبعض الزبناء السياسيين لتكون النتيجة "محو الأمية"على حساب التعليم وتارة أخرى وزارات منتدبة يترأسها وزير دولة " لحاجة في نفس يعقوب "معنية فقط كلها بالتكوين المهني لتوفير يد عاملة للكزرة والطرق...و....و.... صحيح أنه أقيمت رزمة من"الإصلاحات" مع أنني لم أعد أفهم جيدا معنى هذه العبارة ،ذلك أن الإصلاح ينتج الفساد والبعض يفسر الإصلاح بالفساد والفساد بالإصلاح.والمفسد مصلح والمصلح مفسد.
هذه مفاهيم اختلطت في ذهني مع أن الجواب عليها حاضر ومسجل في صفحات التاريخ الذي سجل ثلاث محاولات (إصلاح- فساد )كان آخرها هذا الإصلاح أو إعادة الإصلاح أو إعادة الإفساد سميه ما شئت... الذي مازلنا ننتظره رغم المواعيد القريبة تارة والبعيدة تارة أخرى. 1- إصلاح مابين 1960ال1973الذي لم يكن الهدف منه سوى عقد مصالحة بين المنهج المحظري والمنهج المدرسي ، هذه المصالحة التي أفضت في النهاية إلى إفراغ كلا منهما من محتواه إلا أنه حقق تغطية احتياجات سوق العمل من حملة الشهادات في الإدارة والمصالح التابعة لها ، بغض النظر عن أهلية ذلك الكادرومستواه القيمي، ومخلفات نقص التربية المدنية لديه رغم انه نشأ متعايشا جمعت بينه المدارس والزمالة والقاعدة المعرفية المتماثلة هذا فضلا عن وحدة الدين والوطن وتلك حسنة أخرى.
2- إصلاح 1979الذي كان البعض يطلق عليه "الانتحار التربوي " أو"الإصلاح الفاسد"كما سماه البعض باعتباره قام ضد كيان الدولة الموريتانية ووحدة شعبها الذي يجمع بينه الدين والوطن كما تعايش عبر الأجيال بسلام، وتساكن دون مشاكل تذكر . قام هذا الإصلاح بترسيخ النزاع القوي حيث أنشا جيل لايعرف إلا العربية ويكره الفرنسية إلى درجة مقتها ومقت الناطقين بها . ونشأ جيل مقابل لايعرف إلا الفرنسية ويحتقر العربية ويمقت الناطقين بها كما يعتبر الفرنسية فرصة يعوض بها عن لغاته التي حرم من ترسيمها لما لذلك من ايجابية في التواصل بين مكونات هذا الشعب المسكين الموحد وطنا ودينا والمختلف عرقيا ، الشيء الذي يعمل على تعزيز وحدته الهشة.
إلا أن هذا الصراع رغم مساوئه فانه أنشا جيلين متعلمين ،استطاعا أن يحصّـلا قاعدة معرفية أحادية اللغة بلغت أحيانا حد الإتقان مما جعل الإصلاح يحقق أهدافا تعليمية لطبيعته التنافسية ،دون أن يحقق أي هدف تربوي عام.
3- إصلاح 1999هذا الإصلاح الذي نجني ثماره اليوم بما نراه من تردي سوء حال ، ووهن النتائج ، وضعف المستويات بشهادة الجميع . أما آن لنا وخارج أي اعتبارات في إصلاح الإصلاح الحالي للتعليم عن طريق تقويمه تقويما خاليا من الأغراض الجانبية ، ثم بعد ذلك تركيب حل على ذلك التقويم .
ولما كانت الإصلاحات السابقة تكثر مساوئها إلا أنك قد تجد لها حسنة ولو كانت واحدة بينما إصلاح 1999 لا أتذكر له حسنة إن لم تخني الذاكرة سوى ما أسفر عنه من تدهور للتعليم حيث قضى على كل شيء حتى مقر الوزارة لم يعد معروفا. بل أهمل التعليم من أصله واعتبر ساستنا بأنه يمكن تقدم الأمة بدون التعليم وكأنهم لايعلمون بأن نهضة اليابان التي قامت في ظرف وجيز كانت بفضل المعلم وإنتاجه،وارجع سر نجاحه إلى أن اليابانيين جعلوا التعليم من أولويات اهتماماتهم بأن أعطوا المعلم الراتب المخصص للوزير وأعطوه مهابة القاضي واحترام الضابط . وبهذا فإنهم حصدوا من وراء ذلك نهضة علمية واقتصادية جعلتهم محط أنظار العالم بعد أن خسروا الحرب ودمرت أجمل مدنهم بالأسلحة النووية
أجل من الأهم أن نتعلم قبل فوات الأوان والانشغال بالثروات التي فتحنا فيها ألف ورشة وورشة ، ولم تغن شيئا ،لأن الوعي هو بطل التنمية وليس المعادن والثروات التي رأيناها تصبح نقمة على من لم يحسن استخدامها ويدرجها في سياق تنمية الإنسان. لقد كان النحاس والحديد والسمك والنفط والجبس و...في هذه الأرض منذ ملايين السنين إلا أن الثروات الطبيعية لا تستغل بدون طاقة بشرية خلاقة ووعي كامل، ومعرفة دقيقة بخصائص الأشياء.. وكل أولائك غير ممكن إلا بتعليم وتربية صحيحين. 4- الإصلاح الرابع مازال ينتظر مع أنه ومن المؤسف سيؤسس على هذه النتائج الأنفة الذكر كما أنه وحسب الملاحظ يتوقف على نتائج الحوار السياسي والاقتصادي والانتخابي...مع انه كثيرا ما يذكر ولا...
والحقيقة التي لا مراء فيها أن التعليم في بلادنا كغيره مازال يعاني جملة من المعوقات جراء اختلالات هيكلية تراكمت عبر السنين لم تستطع إلجامها كل الحلول المقترحة من طرف الحكومات المتعاقبة ، رغم ما يشوبها من خلل . وتظهر الصورة بشكل جلي عندما تدخل إحدى المؤسسات التعليمية وتلاحظ مدى الفساد المستشري بأروقتها ، مؤسسات متهالكة بلا حائط ولا نوافذ بل وحتى بلا أبواب تنقصها اللوازم المدرسية ، يخيل إليك أنها مدجنة ،عفوا أقول مدجنة، إلا أنها من المداجن الخاصة بالبشر . طاقم مستاء جله نسوة لأنهن أدرى برعاية الأطفال وجدوا التعليم ملاذا للتوظيف بعد أن هجره بعض القائمين عليه والبعض يفكر في الطريقة التي يبتعد بها عنه مفضلين ممارسة التجارة لما تدره من مال وفير على أصحابها إذ لا مكافأة لمن أخلص للأمانة ولا عقاب لمن خانها . فانهار المربي معنويا زيادة على معاناته المادية المريبة. في حين بقيت ثلة قليلة من ذوي النوايا الحسنة مغلوبون على أمرهم ومحتسبين الأجر عند الله ، مما جعل التعليم لقمة سائغة لكل من هب ودب غير مؤهل من جهة ، ومن جهة أخرى لا يمكن أن يغطي مسطرة المواد المقررة فــــــــي الفصول التعليمية عدديا . كل شيء مستاء إدارات جهوية ومفتشيات عديمة الوسائل وتشعر هي الأخرى بخيبة الأمـــــــــل
كيف نتوقع نتائج والحالة هذه ؟ ومن المصيبة الكبرى أن كادر الإشراف الوطني والجهوي على التعليم المكلف دائما بالإصلاح الذي ينزّله على رؤوس الناس وجد أغلب الكادر البشري ناطق بالعربية ومكون بها خاصة في بعض المواد العلمية ، التي لم تعد تدرس بالعربية كالرياضيات ، والعلوم ،والفيزياء ، والكيمياء ... مما جعل مدرسيها عالة على الوزارة المكلفة بالتعليم في حين لايوجد من الكادر الفرنسي ما يكفي لتدريسها خاصة وأن هذا الكادر منتهب من الإدارة التي تركها المستعمر مفرنسة ، مما جعلهم يفرضون ازدواجية لم يكوّن أصحابها إلا في مخيلة من فرضها عليهم . ويبقى السؤال المطروح على عاتق من سيقوم هذا الإصلاح"المنتظر"؟
طبعا سيقوم على عاتق المعلم المسكين الجائع ، واسمحوا لي بهذه العبارة التي لاتليق بحجم المهمة الصعبة والنبيلة المنوطة بالمعلم ،إلا أن الواقع المر انتزعها مني انتزاعا ... مع أن ذلك قد يكون فعلا مقصودا سبيلا إلى تطبيق قاعدة الاستغلال البشري "جوع كلبك يتبعك" . فمهما قيم به من اصطلاحات وما أهدر من إمكانات سوف لن يفلح مادام المعلم غير راض عن وضعه الصحي والمعيشي والسكني ، كما أن أي إصلاح للتعليم لا يأخذ فيه برأي القائمين عليه يعتبر إتيان الأمور من حيث لا تأتى.
من هذا المنطلق يتضح جليا بأن نجاح التعليم معقود على احترام المعلم ومكانته مع أنني على يقين من أن المكانة شيء يفرض ولا يوهب وأن السر في هذه النظرة الدونية للمعلم راجع إلى عوامل اجتماعية واقتصادية وحتى سياسية وثقافية. كما أنها ليست خاصة بمجتمعنا فحسب وإنما هي عامة في جميع الدول النامية التي تعاني من مشاكل التخلف الفكري.
لذلك سأل حكيم فقيل له : لمذا نرى العلماء يطرقون أبواب الأغنياء أكثر مما نرى الأغنياء يطرقون أبواب العلماء . فأجاب الحكيم : ذلك لان العلماء يدركون قيمة المال فيسعون إليه ، بينما الأغنياء لا يدركون قيمة العلم فلا يذهبون إليه . ويحكى أيضا أن حكيما أوصى ابنه فقال له: تعلم تحبك الخاصة واجمع الدنيا تحبك العامة . وأنا أقول ولست حكيما : كن معلما تحترمك الخاصة وكن غيره ولا أضمن لك الاحترام . وبحكم عظم مسؤولية المعلم وإدراكه للأمل المعقود عليه في تكوين وبناء الجيل الموريتاني فإنه يستطيع التغلب على هذه النظرة المهينة له عن طريق الإخلاص لمهنته والالتزام بها، بدل التهرب منها والاستهانة بها.
وبعد، فنصيحتي لنفسي ولزملائي في ميدان التعليم هي : أن نحب عملنا وأن نؤدي رسالتنا لنفرض احترامنا ونحتل مكانتنا ، وأن نحب لطلابنا ما نحب لأنفسنا من صلاح ونجاح ، وحسبنا شرفا وفخرا ومكانة أننا ورثة الأنبياء وأن الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام قدوتنا في ميدان التعليم .
كما يجدر بنا أن لا نؤدي عملنا كعمل ثقيل أو غير جميل وليس بشعور الرضا والحب والشوق ولا وسيلة للعيش لاغير. والمعلم نفسه باعتباره أحد أفراد المجتمع يتحمل نصيبه من هذه النظرة التي لا تتماشى وكرامة المعلم .
والله المستعان سيد محمد ولد محمد محمود