مرة أخرى يثبت برلماننا الموقر أنه أداة طيعة في يد السلطة وتثبت السلطة أنها لا تقيم وزنا لأي شيء آخر غير خدمة أجندتها الخاصة! فها هو برلماننا ينهي دورة استثنائية قام خلالها بالتمديد لنفسه ليس لأيام أو أشهر ولا حتى لسنوات وإنما لفترة غير محدودة، ومن دون أن يجد نائب رئيس الجمعية الوطنية أدنى حرج في الاعتراف –خلال كلمة الاختتام- بأنها كانت دورة استثنائية بامتياز وأن ما قامت به من عمل سيحدد ملامح موريتانيا الغد!
لا تكمن المشكلة هنا في أن السلطة التنفيذية منحت الإذن للسلطة التشريعية للتمديد لنفسها ولا في أن هذه الأخيرة قامت بذلك بعد انتهاء مأموريتها، وإنما أيضا في هذه الجاهزية لدى السلطتين للتلاعب بإرادة الأمة كيف ومتى شاءتا! فحين يتعلق الأمر بتشريع انقلاب عسكري يوضع الدستور في ثلاجة لغاية الانتهاء من ترتيبات الاستيلاء على السلطة، وحين يتعلق بتأجيل الانتخابات تظهر بدعة القانون الدستوري الذي يمنح المنتخبين صلاحية غير محدودة!
والمفارقة المضحكة –وشر البلية ما يضحك- أنه حين يقرر عمال الاعتصام للضغط من أجل تحقيق مطالبهم أو يتظاهر شبان في الشارع لطرح مطالبهم، يتعالى صراخ السلطتين بضرورة احترام الدستور والقوانين المعمول بها وتخرج آلة القمع مدججة بكلما تملك من وسائل القهر! وكأن الدستور خلق ليحترمه الآخرون وتتلاعب به السلطات!
في محاولتها السابقة لتأجيل الانتخابات كانت السلطة على الأقل أكثر حياء لأنها استشارت هيئات –وإن كانت غير معنية- وحاولت أن تضع قرارها ضمن إطار نوع من الإجماع –وإن كان شبه مغشوش- أما الآن فقررت ومن دون سابق إنذار أن تعيد بعض مقتضيات الدستور لثلاجتها وأن تضرب عرض الحائط بتوخي أدنى قدر من الإجماع وهي تعيد صياغة دستور أمة لتطوعه من أجل خدمة أهداف أنانية.
لم يكف السلطة إذا التلاعب بقوانين "صغيرة" مثل مدونة الصفقات وقانون الجنسية أو مدونة المعادن، فقررت ضرب الدستور في جوهر فلسفته واستخدام أغلبيتها الجاهزة كبديل عن الإرادة الشعبية، بل من أجل مصادرة تلك الارادة ومنعها من أن تقول كلمتها مجددا من خلال الانتخابات كما ينص على ذلك دستور الدولة! وهي طريقة أخرى لتعلن لنا أن ميزان القوة هو وحده الفيصل وليس المرجعية المعبرة عن روح الأمة ورغبتها في العيش المشترك وفق قواعد انتقتها بعناية واختارتها بإجماع لتكون ملزمة لكل من يتولون بصفة مؤقتة مسؤولية تسيير شؤونها.
فهنيئا للسلطة على تحديدها وحدها لملامح مستقبلنا وعلى حسمها لخيارها بناء دولة "الأغلبية" على حساب دولة المؤسسات التي هي دولة الجميع، وهنيئا للأغلبية بفرصتها الجديدة وبخبرتها في تفصيل الدستور وفق مقاساتها، وهنيئا للمعارضة على تقبلها في كل مرة للأمر الواقع وسيرها في فلكه، وهنيئا لفقهاء القانون الدستوري على غزارة معارفهم وعلى صمتهم المتمالئ!
أقلام حرة