في مناسبة سابقة قررت أن أكتب هذا المقال فشرعت فيه ثم توقفت وانشغلت ، ولكن الموضوع عاد يطرق على الباب فبعض الإسلاميين – وإن من خلفيات مختلفة – يصر على أن الإسلام لا يقبل الديمقراطية ولا يستطيع التعايش معها وطائفة من السلفيين توزع أحكام الحرمة والمنع على الانتخابات والأحزاب وسائر متعلقات العملية الديمقراطية، ويخلط البعض على نحو لا تسعفه العلمية بين الديمقراطية والعلمانية، كما أن بعض العلمانيين مازال يصر على أن المرجعية الدينية – و هي في هذه الحالة إسلامية – تناقض المفهوم الديمقراطي و لا تلتقي معه ، و كل إسلامي يدعي الديمقراطية أو يقبلها عاقد العزم على خلاف ذلك في الحال أو في المآل و أن المواقف السياسية بالقبول لا تعززها رؤية فكرية بالاستيعاب .... ثم جاءت أحداث مصر و انقلاب السيسي على التجربة الديمقراطية و هو ما ولد شعورا بأن الممارسة الديمقراطية وهم و ليس للإسلاميين فيها مكان فاستعجل البعض فاتهم الديمقراطية بالقصور و طريقها بالفاشل لأن عسكريا متعطشا للسلطة انقلب في مصر مستهدفا الديمقراطية و الكاسبين فيها معا فالخصومة مع الانقلاب و الاستبداد لا مع الديمقراطية و الانتخاب ، و هكذا قررت أن أكمل المقال و قد أسهم بعض المعلقين على تويتر في هذا القرار بسؤالهم المتكرر و المستفز أحيانا عن المقال الذي كنت قد وعدت به سابقا . و لعلي مطالب أن أعتمد تعريفا للديمقراطية به التزم في هذه المقاربة و على ضوئه يحاسبني القراء و المهتمون و يساعدني د. صالح حسن سميع في كتابه القيم " أزمة الحرية السياسية في الوطن العربي : دراسة علمية موثقة " بضبط دلالة هذا المصطلح حين يقول " فالديمقراطية في أصلها اللغوي و سياقها التاريخي لا تحمل إلا مفهوما سياسيا واضحا و محددا و هو : حكم الشعب بالشعب و قد ظهر هذا المصطلح لأول مرة في التاريخ في كتاب ( تاريخ حرب البيلو بونيز ) من تأليف المؤرخ اليوناني توسيد يدس – 460 – 400 – ق..م " أزمة الحرية السياسية في الوطن العربي ص/ 47 و مع ذلك لا يفوته و قد وثق التعريفات المشهورة و المتداولة أن يشير إلى حجم ما تعرض له مصطلح الديمقراطية من توظيف حتى من أبعد الناس عن مقتضياتها " إن من الظواهر التي لا تخطئها العين في تاريخ الفكر السياسي أنه لم تستغل كلمة في تاريخه بقدر ما استغلت كلمة الديمقراطية و لعله لم يهدر معنى كلمة أو يشوه بقدر ما حدث لها " نفس المرجع ص/ 48 و حتى لا أضيق على نفسي بإضافات المدرسة الليبرالية و سياق تطور الديمقراطية في ظلها و ما صاحبها من جراء ذلك مما لا يستطيع البعض تصور فصله عنها أخلص إلى القول بأن جوهر الديمقراطية أن يكون الحكم صادرا عن الشعب ، فمصدر الشرعية الوحيد هو الناس و اختيارهم و وسيلة العزل الوحيدة هي الناس و انتخابهم و ملحقات ذلك و مقتضياته المعروفة فصلا للسلطات و تشريعا للتداول السلمي على السلطة و منحا للحقوق لكافة مكونات الشعب و قواه . أما مادة الحكم و برنامجه ، أما القوانين و ما تحويه فهذا يعود إلى اختيار أغلبية الناس و لذلك نجد الديمقراطية تفضي إلى سلط و حكومات تختلف مرجعياتها و برامجها و أنماط إدارة الحكم عندها و لنا أن ندرك أن الحكم في فرنسا و الهند و تركيا و البرازيل و السنغال و غزة إفراز للديمقراطية و لن نجد صعوبة في الحكم على اختلاف هذه الحالات فكريا و سياسيا و اجتماعيا فلا داعي لتحميل الديمقراطية فوق ما تتحمل . لست من البساطة بحيث يغيب عني أن الديمقراطية تطورت و نضجت في سياق الحضارة الغربية قديمها و حديثها و لذلك ثمنه من مصاحبات ثقافية و اجتماعية تنتمي لفضاء القوم و تترجم الفلسفة اللادينية و أحيانا في صورها الأشد قتامة و لكني مع ذلك أدرك أن الفصل ممكن و أن اتساع المجال في التعاطي مع الديمقراطية و شموله لأمم و شعوب تعددت دياناتها و تباينت ثقافاتها أعطاها بعدا عالميا و حررها أو كاد من كثير مما يصر متطرفو العلمانيين و متشددو الإسلاميين على لصقه بها و جعله ملازما لها و في كتابه " الأمة هي الأصل " نفى الدكتور أحمد الريسوني هذا التلازم الذي يصر عليه هؤلاء : " فهذه الأمور التي نعتقد أنها من لوازم الديمقراطية ليست من لوازمها في الحقيقة , فيمكن إذن أن تنتقل جملة من المفاهيم و من الأفكار و من المبادئ الديمقراطية من دون أن ينتقل معها كلما لازمها في دولة معينة أو في حقبة تاريخية معينة " الأمة هي الأصل ص / 45 و لأننا في هذا الحديث نود تصحيح العلاقة بين الإسلام و الديمقراطية – من وجهة نظر معينة طبعا – فإن حديثا في الرؤية السياسية في الإسلام يصبح لازما و به نستطيع التأسيس لهذه العلاقة الإيجابية مع الديمقراطية استيعابا و استنباتا و هي عادة الإسلام و حضارته مع النبتات الطيبة و الحكمة المفيدة أيا كان مصدرها لأن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها . ليس من المجازفة القول إن الإسلام آثر الإجمال على التفصيل في الشأن السياسي و أن البناء السياسي في الإسلام تحددت قواعده و موجهاته و لم تتحدد طرائقه و إجراءاته و أن للزمان و إضافاته و المكان و خصوصياته و الفكر و تطوراته دور في الاجتهاد السياسي في الإسلام . يقوم البناء السياسي الإسلامي على قواعد من أهمها و مما له صلة واضحة بموضوعنا : الشورى ، و هو مصطلح تعرض للكثير حتى تصوره البعض سلوكا اختياريا يمكن للحاكم أن يمارسه و يحق له تركه إن شاء و أن نتائجه للإعلام و على سبيل الاسترشاد و ليست للأخذ و لا هي على سبيل الإلزام ... و الشورى مصطلح له أصل لغوي أوضحه ابن منظور في لسان العرب قائلا : " فالشورى و المشاورة و المشورة : مصادر للفعل شاور فتقول : شار العسل يشوره شورا و شيارا و شيارة و مشارا و مشارة : أي استخرجه من الوقبة و اجتباه ، كما أن الشورة و الشارة هي – غالبا – الهيئة و المظهر الحسن " لسان العرب ج 4 ص/ 2356 – 2357 و الشورى صفة لأمة المسلمين " و الذين استجابوا لربهم ، و أقاموا الصلاة و أمرهم شورى بينهم و مما رزقناهم ينفقون ، و الذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون " الشورى 38 – 39 و قد نقل الإمام القرطبي تعليقا على هذه الآية : " قال الحسن : ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمورهم .. و قال ابن العربي : الشورى ألفة للجماعة و مسبار للعقول و سبب إلى الصواب و ما تشاور قوم إلا هدوا " الجامع لأحكام القرآن /القرطبي 16 / 25 و زاد في الإيضاح رابطا هذه الشورى في أول أمرها بالموضوع السياسي : " و أول ما تشاور فيه الصحابة الخلافة فإن النبي صلى الله عليه و سلم لم ينص عليها حتى كان فيها بين أبي بكر و الأنصار ما سبق بيانه .. و تشاوروا بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم في الحروب , حتى شاور عمر الهرمزان حين وفد عليه مسلما في المغازي " نفس المرجع 16 / 25 – 26 و جاء القرآن بالأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بممارسة الشورى و بالتالي هو أمر لخلفائه و أتباعه و السائرين على نهجه : " فبما رحمة من الله لنت لهم و لو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم و استغفر لهم و شاورهم في الأمر ، فإذا عزمت فتوكل على الله ، إن الله يحب المتوكلين " آل عمران 159 قال القرطبي : " قال ابن عطية : و الشورى من قواعد الشريعة و عزائم الأحكام , من لا يستشير أهل العلم و الدين فعزله واجب ، هذا ما لا خلاف فيه " القرطبي 4 / 161 و أورد الحافظ ابن كثير ما تضمن ردا على من يفسر العزم على غير الوجه الشوري المطلوب قال : " و روى ابن مردويه عن علي بن أبي طالب قال : سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن العزم فقال : مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم " تفسير ابن كثير 2 / 143 و قد أحسن الدكتور حسن الترابي بحسه اللغوي الرفيع حين أوضح صيغة الترابط في الآية : " و لم تقل الآية أو شاورهم في الأمر و إذا عزمت فتوكل على الله لتخير في أن يأخذ بالشورى أو يعزم في الأمر وحده بل كان رابط الجملتين الفاء التعقيبية ليكون العزم فالتوكل عقب الشورى و بناء عليها " الشورى و الديمقراطية : إشكالات المصطلح و المفهوم ص / 18 و نقل الإمام ابن القيم تأصيلا داعما لهذا التوجه حين قال : " ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله : الأمر ينزل بنا لم ينزل فيه قرآن و لم تمض فيه سنة قال صلى الله عليه و سلم : اجمعوا العالمين أو قال العابدين من المؤمنين فاجعلوه شورى بينكم و لا تقضوا فيه برأي واحد " إعلام الموقعين 1 / 65 أما الشهيد سيد قطب فيقطع معلقا على هذه الآية : " و بهذا النص الجازم ( و شاورهم في الأمر ) يقرر الإسلام هذا المبدأ في نظام الحكم حتى و محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم هو الذي يتولاه ، و هو نص قاطع لا يدع للأمة المسلمة شكا في أن الشورى مبدأ أساسي لا يقوم نظام الإسلام على أساس سواه أما شكل الشورى و الوسيلة التي تتحقق بها فهذه أمور قابلة للتحوير و التطوير وفق أوضاع الأمة و ملابسات حياتها و كل شكل و كل وسيلة تتم بها حقيقة الشورى لا مظهرها فهي من الإسلام " في ظلال القرآن 1/ و لمصطلح الشورى حدود و تعريفات وفق بعض المعاصرين في تصورها يقول الدكتور عبد الحميد الأنصاري إن الشورى هي " استطلاع رأي الأمة أو من ينوب عنها في الأمور العامة المتعلقة بها " و حدد عناصر التعريف في " حق الأمة في أخذ رأيها في اختيار الحاكم الذي ترتضيه ، و أخذ رأيها في كل الأمور الهامة ، و في حقها في أن تحكم نفسها وفقا لإرادتها ، و من أجل مصلحتها و أخيرا حقها في الرقابة و المعارضة و النقد و التقويم " الشورى و أثرها في الديمقراطية ص/ 4 و يعلق د. حسن صالح سميع على بعض التعريفات المحدودة و المضيقة لمفهوم الشورى : " و المتأمل لتلك التعريفات يجد أنها قيلت و في ذهن قائلها تلك الصورة المبسطة لعملية الشورى في عهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم حيث كانت الحياة السياسية و الدستورية تتسم بالبساطة " ثم يعقب شارحا جوهر المفهوم : " إن جوهر مبدإ الشورى يعني : حق الأمة في إدارة شؤونها بنفسها إلا أن تطبيقات المبدإ تختلف في صورها و في وسائلها باختلاف الزمان و المكان " مرجع سابق ص/ 52 و لعل الشيخ راشد الغنوشي و هو الذي أعطى وقتا للمسألة السياسية تأصيلا و تنظيرا و جمع فيها بين التفكير و الممارسة يساعد في ضبط المعنى و الدلالة حين يقول : " إن الشورى في الإسلام ليست حكما فرعيا من أحكام الدين يستدل عليه بآية أو آيتين و بعض الأحاديث و الوقائع ، و إنما هي أصل من أصول الدين و مقتضى من مقتضيات الاستخلاف أي أيلولة السلطة الربانية إلى العباد الذين أعطوا الميثاق لله أن يعبدوه " الحريات العامة في الدولة الإسلامية ص/ 109 و من الأدلة المهمة التي ذكرها البعض على الشورى و على إخراجها من المقاربة الفردية إلى المقاربة الجماعية آية الاستخلاف " وعد الله الذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم و ليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ، و ليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا ، يعبدونني لا يشركون بي شيئا " النور 55 و قد أورد القرآن استبداد فرعون في سياق الذم " ما أريكم إلا ما أرى و ما أهديكم إلا سبيل الرشاد " و شورية ملكة سبأ في السياق الإيجابي " أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون " و على المستوى التطبيقي كانت صيغة اختيار الحكام في التجربة النموذج تجربة الخلافة الراشدة – و هي نموذج بدلالاتها و مقاصدها و ضوابطها – لأنه تظهر في أشكال التطبيق خصوصية اللحظة و السياق مترجمة لهذه الشورى ، ففي السقيفة اجتمع رؤوس المهاجرين و الأنصار لينتهي تداولهم و نقاشهم إلى اختيار أبي بكر الصديق رضي الله عنه و ليبايعه الناس في المسجد ، و في مرض وفاته دعا أبو بكر الناس إلى الاجتماع ليؤكد لهم ضرورة اختيار خليفة له قائلا " فإن شئتم اجتهدت لكم رأيي " و كان الجواب " أنت خيرنا و أعلمنا فاختر لنا " فأوصى لعمر رضي الله عنه و بايع الناس ، يعلق شيخ الإسلام ابن تيمية قائلا : " و كذلك عمر لما عهد إليه أبو بكر إنما صار إماما لما بايعوه و أطاعوه ، و لو قدر أنهم لم ينفذوا عهد أبي بكر و لم يبايعوه لم يصر إماما " منهاج السنة 1 / 142 و في بيعة عثمان رضي الله عنه اختار عمر الستة و وضع لهم ضوابط و إجراءات ثم أشرف عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه على شورى عامة فخرج " يتلقى الناس في أثقاب المدينة متلثما لا يعرفه أحد ، فما ترك أحدا من المهاجرين و الأنصار و غيرهم من ضعفاء الناس و رعاعهم إلا و سألهم و استشارهم " و في رواية أخرى " حتى خلص إلى النساء المخدرات في الحجاب " و كانت النتيجة أن اختار الناس عثمان رضي الله عنه و بايعوه و كان تعليق الخليفة عمر كما ورد في الصحيح كافيا لضبط مصدر الشرعية " بلغني أن قائلا منكم يقول : و الله لو مات عمر لبايعت فلانا فلا يفرق امرؤ أن يقول : إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة فتمت ألا و إنها قد كانت كذلك و لكن وقى الله شرها ، و ليس فيكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر ، من بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو و الذي بايعه تغرة أن يقتلا " فتح الباري 12 / 144 – 145 أما بيعة الإمام علي رضي الله عنه عندما اجتمع إليه الناس في بيته و أرادوا بيعته قال : إن بيعتي لا تكون خفية و لا تكون إلا في المسجد و مشهور عن الأمير العادل عمر بن عبد العزيز أنه بعد عهد سليمان له بالخلافة صعد المنبر و قال : " أيها الناس إني لست بمبتدع و لكني متبع و إن من حولكم من الأمصار و المدن إن أطاعوا كما أطعتم فأنا واليكم ، و إن هم أبوا فلست لكم بوال " البداية و النهاية 9 / 182 – 183 و واضح أن للشورى في التصور الإسلامي مجالين مجال الاختيار و مجال الممارسة ، فالشورى قبل أن تكون أسلوبا مطلوبا من الحاكم هي قاعدة اختياره و نيله الشرعية و لا عبرة بالضرورات و الممارسات التي انتهى البعض إلى اعتبارها مصدرا للشرعية و ما هي كذلك سواء في ذلك ولاية العهد أو شوكة التغلب . و إذا حررت الشورى من تضييق المجال و توجيه الدلالة الذي عانت منه في مراحل الانحراف السياسي في تاريخ الأمة ، و حررت الديمقراطية مما علق بها مما ينتسب لثقافة و ممارسة من تطورت عندهم مما لا يناسب خصوصيتنا الحضارية ، يصبح اللقاء ممكنا بل و مطلوبا . و هنا يلزمنا التوقف عند جملة إشكالات يثيرها البعض و يصر على أنها كافية للقول بأن الإسلام لا يقبل الديمقراطية أو أن الديمقراطية لا تناسب المسلمين يجمل معظم الرافضين للديمقراطية ، المعتبرين أنها تناقض الإسلام و الذين يرون في تبني الخيار الديمقراطي " تخليا عن الدين و اعتناقا لمذهب آخر " و أن الديمقراطية " لا تغرس الوازع الإيماني و لا تؤلف بين القلوب و لا تدل الناس على الله و لا تقيم العدل الحق و لا تطعم الناس من جوع و لا تؤمنهم من خوف " و انتهى بعضهم ( حافظ صالح ) إلى القول بتحريم مصطلحي الحرية و الديمقراطية ، يجمل معظم هؤلاء مظاهر الاختلاف أو التناقض بين الإسلام و الديمقراطية في الخلاصات التالية : مصدر التشريع في الديمقراطية الناس و الشعب ، و مصدر التشريع في الإسلام الوحي " إن الحكم إلا لله " و تعتبر الديمقراطية الشعب حكما وحيدا يرجع إليه بينما الإسلام يقرر " فردوه إلى الله و الرسول " تبيح الديمقراطية حرية الدين و الاعتقاد و تجيز الردة ، و هذا خلاف الإسلام الذي يقتل المرتد و يجرم الرجوع عن الإسلام ، كما تتيح الديمقراطية حرية التعبير مطلقا ، و في الإسلام تعبير جائز و تعبير محرم ، و الحرية الشخصية بلا حدود في الديمقراطية و تحدها حدود الشرع في الإسلام . الإسلام دين شامل للحياة و الديمقراطية تقوم على أصل فصل الدين عن الدولة . الديمقراطية لا تحد حرية إنشاء الأحزاب و التجمعات مهما كانت عقيدتها أو توجهها و الإسلام يمنع التعاون على غير البر و التقوى ، و الديمقراطية تساوي بين جميع الناس و الإسلام لا يساوي بين العالم و الجاهل أو بين أهل الحل و العقد و غيرهم . الديمقراطية تعتبر معيار الأكثرية لا الدليل و البرهان ، و الإسلام يريد الحق و لو قل أهله و لا يقبل إلا ما وافق الكتاب و السنة . و نحن هنا للتعاطي مع هذه الإشكالات أو لرفع اللبس تجاه هذه الشبهات يهمنا أن نوضح أن دفاعنا عن الديمقراطية و مرافعتنا عن انسجامها مع الإسلام و قابليته لاستيعابها ينطلق من تحفظ مسبق خلاصته أن الديمقراطية حصاد فكر بشري – قد يكون أخذ من أصول متنوعة فيها الديني و فيها الوضعي – ، أجابت على إشكالات تسيير الاختلاف و بناء السلطة ، تقبل التطوير و تقبل التكيف و تقبل الإضافة ، و يستطيع الفكر السياسي و هو يتطور و تتلاقى فيه إبداعات البشرية و إسهامات مختلف الحضارات أن يتوصل لأحسن منها و أن يجود و يطور و يجدد ، و لكنها إلى الآن مثلت – خصوصا مع تحريرها من مساوئ التطبيق – منهجا من أحسن ما يدير به الناس شأنهم في السياسة و الحكم . و الآن أسجل جملة من الأفكارمن شأنها تحقيق هدف رفع اللبس و الرد على الشبه : 1 – يخطئ من يعتبر الديمقراطية دينا أو مذهبا مقابلا للإسلام و عقائده و أحكامه ، فالإسلام إجابة على أسئلة الإنسان كلها في الوجود و الأصل و المصير ، في الاعتقاد و الأخلاق و الحياة ، في العبادات تفصيلا و في الشأن العام قواعد و كليات و أحكاما و حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم وضح لنا أنواع العقول في التعامل مع هدى الإسلام مفضلا عقل الفهم و العلم و التبليغ " مثل ما بعثني الله به من الهدى و العلم ، كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا ، فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ و العشب الكثير ، و كانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا و سقوا و زرعوا ، و أصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء و لا تنبت كلأ ، فذلك مثل من فقه في دين الله و نفعه ما بعثني الله به فعلم و علم ، و مثل من لم يرفع بذلك رأسا و لم يقبل هدى الله الذي أرسلت به " البخاري فلا خير في القيعان و الأجادب مفضولة .... أما الديمقراطية فأسلوب لتنظيم الشأن السياسي في إجراءاته و آلياته ، لا تتدخل في عقائد الناس و بالتالي تتكيف معها على اختلافها و تتيح لكل مجتمع أن يعبر من خلال تياره العام و أغلبية أهله عن منهج الحكم و مضمون القوانين ... فأنت بقبولك الانتخابات الحرة و الشفافة و النزيهة وسيلة للسلطة و لتغييرها ، بقبولك للتداول السلمي على السلطة و حق الناس في رقابة حكامهم و عزلهم إن أخلوا وفق نظام معلوم ، بقبولك الفصل بين السلطات و تأدية كل منها لدورها المرسوم دستوريا ، بقبولك حرية الجميع – في حدود القانون و القواعد العامة – في التعبير و التجمع و النشاط ، تكون ديمقراطيا و لا تشترط عليك الديمقراطية لا في أصولها الأولى و لا في تجلياتها النظرية التي تكاملت لاحقا أن تخاصم الدين أو تتركه أو تتخذ منه موقفا معينا ، و القول بذلك خلط لا تسعفه الاعتبارات العلمية بين الديمقراطية و العلمانية ، فالديمقراطية إطار لا مذهب له و العلمانية مذهب و إيديولوجيا و تعميمها مصادرة مسبقة لاختيارات كثير من الناس ، فالديمقراطية تسع العلمانية و لا تتماهى معها . 2 – القول بأن الديمقراطية تعتبر الناس مصدر التشريع خلافا لمصدرية الوحي في الإسلام قول غير ناهض ، و لعلي مطالب هنا بتوضيح فكرة مهمة في الفكر السياسي الإسلامي و هي التفريق بين مصدر الشرعية و مصدر التشريع ، فمصدر الشرعية للحاكم أو الحكام هو الناس و سبق أن أشرنا إلى مظاهر ذلك في اختيار الخلفاء الراشدين و ما قاله شيخ الإسلام حول شرعية اختيار عمر رضي الله عنه و ممن كانت ، و في صيغة حصر و نفي يؤكد الإمام علي رضي الله عنه " و لا تنعقد الإمامة إلا ببيعة المسلمين " و بطريقة تؤكد ما ذهب إليه ابن تيمية يورد أحد أبرز كتاب الأحكام السلطانية و هو أبو يعلى الحنبلي " الإمامة لا تنعقد للمعهود له بنفس العهد ، و إنما تنعقد بعهد المسلمين " الأحكام السلطانية ص/ 25 و يؤكد الإمام الباقلاني متحدثا عن الإمامة " لأنه ليس لها طريق إلا النص أو الاختيار و في فساد النص دليل على ثبوت الاختيار الذي نذهب إليه " التمهيد ص/ 467 و رضى الناس معتبر في حكامهم و ولاتهم ، و مواقف عمر رضي الله عنه معينة على هذا المعنى فقد عزل سعد بن أبي وقاص لا لنقص فيه أو تقصير منه و إنما لأن أهل ولايته أبوه ، و كان لا يترك واليا فوق أربع سنين فإن كان عدلا مله الناس و إن كان جائرا كفى من جوره – و في ذلك تأسيس لفكرة التداول المحرجة للبعض – و للأستاذ راشد الغنوشي كلام واضح في هذا السياق " تقول أهل التشيع على رسول الله صلى الله عليه و سلم فجعلوا نظامه الشوري كسروية وراثية يتسلمها الأحفاد عن الأجداد كما يتسلمون المواريث حاشى أهل أطهر بيت أن ينسب إليهم دنس النظام الوراثي ، إنه النظام الوراثي مهما اختلفت العناوين ، و تقول أدعياء التسنن على نبيهم صلى الله عليه و سلم فأولوا إنابته لأبي بكر في الصلاة على أنه استخلاف و كأن المصطفى صلى الله عليه و سلم و هو الذي أوتي جوامع الكلم و هو نبي البيان و الملحمة عجز أو خشي أن يقولها صريحة " الحريات العامة ص/ 162 أما مصدر التشريع فهو الوحي بأصوله و مقاصده و أحكامه و هنا لابد من التفريق بين الملزم و هو الكتاب و السنة الذي يلزم المسلمين في كل زمان و كل مكان و بين اجتهادات المسلمين و علمائهم التي تعين و تفيد و ترشد . و الديمقراطية – لعلم من يعلم أو لا يعلم – تحدد الآلية التي يختار بها الناس كيف يشرعون و على أي أصل يعتمدون في ذلك التشريع ، ألا ترون معي هذا الجدل الواسع في كتابة الدساتير حول مرجعية التشريع ، هل هي الشريعة الإسلامية حصرا أو أساسا أم لا تذكر سكوتا عنها أو إلغاء لها ..... إلخ ألا يؤكد أن مصدرية التشريع تتقرر حسب التوجه العام للمجتمع و يمكن أن تكون الوحي أو الوضع ، و بالتالي فالديمقراطية تحسم في مصدر الشرعية و هنا تتفق مع أحكام الإسلام و قواعد الخلافة الراشدة و رحم الله الإمام محمد الغزالي حين لخص ذلك المعنى " لقد تعلم المسلمون من دينهم أن طغيان الفرد في أمة ما جريمة غليظة ، و أن الحاكم لا يستمد بقاءه المشروع ، و لا يستحق ذرة من التأييد إلا إذا كان معبرا عن روح الجماعة و مستقيما على أهدافها ، و من ثم فالأمة وحدها هي مصدر السلطة ، و النزول على إرادتها فريضة و الخروج على إرادتها تمرد ، و نصوص الدين و تجارب الحياة تتضافر كلها على توكيد ذلك " الإسلام و الإستبداد السياسي ص/ 62 كما تحدد آلية تفضي إلى اختيار مصدر التشريع ، و لا أخال مجتمعا مسلما يختلف في مصدرية الشريعة الإسلامية سواء عبر عنها بالمصدر الوحيد أو الرئيسي أو الأساسي أو بعبارة دين الدولة هو الإسلام أو الإسلام دينها ، و معروف أن السلطة التشريعية من أهم أركان الدولة ... و مع ذلك يحتاج مفهوم الشريعة إلى تصحيح يخرج به من دائرة الفهم الجزئي و طغيان الطابع العقابي و القانوني عليه فالشريعة عدل و حرية و إنصاف و استقامة ثم هي ردع و عقاب و عكس البناء خطأ و خلل . 3 – لا أريد فتح نقاش هنا حول موضوع الردة و الحد المقرر لها شرعا مع أن هذا النقاش مطلوب خصوصا أن دائرة الأقوال و الاجتهادات تتسع في شأنها ، صحيح أن المشهور و المعروف عند أغلب العلماء هو أن حد المرتد القتل اعتمادا على حديث البخاري " من بدل دينه فاقتلوه " ، مع أنه أختلف في الإستتابة و حدها الزمني هل هو ثلاثة أيام أو شهر بل روي عن الإمام النخعي الاستتابة أبدا ، و لماذا يفرق أغلب الأحناف بين المرتد و المرتدة مع أنه في جريمة الرأي لا وجه للتفريق ، و أثار عدد من المعاصرين التفريق بين الردة اللازمة و تلك المتعدية التي يصاحبها تمرد أو خروج مقرين العقوبة للثانية دون الأولى ، و لكني أود أن أشير إلى أن رفض الديمقراطية بحجة حد الردة لا يستقيم ، لأن التشريع الجنائي كغيره من التشريعات مبني على ما يقرره المجتمع انطلاقا من خصوصيته و ثقافته ، و أي تشريع يجاز بالقنوات المؤسسية و الديمقراطية نافذ ديمقراطيا ، و عموما إذا كان العالم على استعداد للاتفاق على قيم الحرية و رفض الإكراه و العنف فلا أخال الإسلام و الفاهمين من أهله إلا على استعداد لعقد من هذا النوع يعلي قيم الحرية و الإنصاف و قبول الآخر و سنجد في كتاب الله ما يؤسس و يشجع : " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت و يؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها و الله سميع عليم " البقرة 256 " و لو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين " يونس 99 " قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي و آتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها و أنتم لها كارهون " هود 28 " و قل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها و إن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب و ساءت مرتفقا " الكهف 29 " و لو شاء الله لجعلكم أمة واحدة و لكن يضل من يشاء و يهدي من يشاء و لتسئلن عما كنتم تعملون " النحل 93 " و لو شاء الله ما أشركوا و ما جعلناك عليهم حفيظا و ما أنت عليهم بوكيل " الأنعام 107 4 – غريب هوهذا الحرص على التفريق بين الناس عامتهم و خاصتهم ، جهلتهم و علمائهم ، نسائهم و رجالهم ، صغارهم و كبارهم ، و أن الديمقراطية تجعل الجميع في نفس الدرجة يختارون و يحددون المصير ، بينما الإسلام يفرق و يفصل ، و الحقيقة أنه لا الإسلام يفرق في الشأن العام ( اختيار الحاكم ) و لا الديمقراطية تسوي بين الناس أما أن الإسلام لا يفرق بين الجماهير في اختيار من يحكمهم فواضح من طبيعة البيعة التي تكون في المسجد و لا حاجب يمنع العامة أو غير العلماء أو ... و مشهور ما فعله سيدنا عبد الرحمن بن عوف أثناء استفتائه " فما ترك أحدا من المهاجرين و الأنصار و غيرهم من ضعفاء الناس و رعاعهم إلا و سألهم و استشارهم " و كان سؤاله " من ترى الخليفة بعد عمر " لأن الحاكم على الجميع و يتأثر به الجميع ، و كذلك في الديمقراطية هناك من يرشح فعلا و الناس تختار ، و النخبة و الأحزاب و أهل الرأي يمتازون عن المواطن العادي الذي لا يتعدى دوره غالبا أن يختار من بين خيارات ، و بالتالي فالقول بهذا التناقض غير مؤسس . 5 – أما موضوع الأكثرية و الأقلية و الاختلاف حول اعتماد البرهان و الدليل فموضوع يحتاج تحريرا فالبحث عن الدليل و قوة البرهان هو وسيلة الجميع و به نبحث عن أكثرية تدعمه فإن لم تحصل استمر الأداء و كثف الإقناع حتى تحصل ، فالدليل يتعلق بمادة الحوار و التداول ، أما الأكثرية و الأقلية فتتعلق بالحسم عند الاختيار و لا تقابل أو تناقض بين الاثنين ، وقد بالغ بعض الرافضين لمنطق الأكثرية في هذا الرفض حتى قال إسماعيل الكيلاني : " إن الإسلام لا يجعل كثرة العدد ميزانا للحق و الباطل " و نحن نعلم أن الأمر ليس كذلك فالأكثرية معتبرة علما و سياسة ، قال الإمام الرازي " الخبر الذي يكون رواته أكثر راجح على الذي لا يكون كذلك " المحصول 2/ 453 و أورد الإمام الباجي في إحكام الفصول أن المالكية في موضوع الوضوء من مس الذكر قالوا : " ما استدللنا به أولى لأنه رواه عن النبي صلى الله عليه و سلم جماعة منهم – و سموا – و خبركم لم يروه إلا واحد فكان خبرنا أولى " إحكام الفصول ص/ 737 و ذكر الباجي أمثلة أخرى ثم علق قائلا : " فثبت أن لكثرة العدد تأثيرا في الترجيح " نفس المرجع ص/ 738 و أورد الإمام ابن القيم أن البيهقي نقل عن الإمام الشافعي متحدثا عن الصحابة : " فإن اختلفوا بلا دلالة نظرنا إلى الأكثر " إعلام الموقعين 4 / 122 أما في المجال السياسي فنكتفي بما أورده ابن سعد في طبقاته " قال عمر لأصحاب الشورى : تشاوروا في أمركم ، فإن كان اثنان و اثنان فارجعوا في الشورى و إن كان أربعة و اثنان فخذوا صنف الأكثر " الطبقات الكبرى 3 / 61 من هنا فإن أكثرية المسلمين معتبرة و نحن نتحدث عن ديمقراطية في مجتمعات إسلامية ، و لا فرق في الحقوق في الشأن العام و إنما التفريق يكون في مجالات التخصص و ما تعلق بها من شورى و مشاورة . إن الإسلام أجمل في شأن السياسة و أعطى أهدافا و موجهات و حدد مقاصد و أحكاما ، و التطبيق التاريخي في عصر الراشدين ينظر إليه بهديه العام و ممارساته الكلية لا بتفاصيل الإجراءات و الأشكال ، من هنا فإن هذه الديمقراطية التي اهتدت إلى آليات تنظم الاختلاف و تحصره في الوسائل الحضارية و السلمية نبتة طيبة و حكمة دون شك و صدق الأستاذ محمد ولد المختار الشنقيطي حين قال : " فالديمقراطية ليست موقفا عقديا و إنما هي صيغة إجرائية تسمح لنظام العقائد و القيم في المجتمع بالتعبير عن نفسه بحرية و بتجسيد ذاته في قوانين و ضوابط عملية " من مقال للكاتب فإذا نجح دعاة الحل الإسلامي في تحقيق هذا الهدف من هذا الطريق فنعما هي و إن فشلوا فليس لهم إلا الانتظار و الدعوة حتى يتحقق ذلك بالإقناع و التراكم ، و لا سبيل لفرض الخيارات على الناس و إرغامهم على ما لا يريدون أيا كان و أيا كانوا ، فالإكراه منع في الدين و الإيمان ، فلا يسوغ أن يكون في فهم الدين أو اجتهاد أهله أو اختيارات منتسبيه .