لم يكن أحد يعرف مؤسس أكبر حركة إسلامية في تركيا سِوى الأتراك وبعض الخبراء في شئون الإسلام بالخارج.حتى وقت قريب إلى أن أظهر استفتاء أجرته كل من مجلتي "بروسبكت" البريطانية و"فورين بوليسي" الأمريكية حول أهم 100 مفكر على مستوى العالم، وكان فتح الله كولن على رأس القائمة في هذا الاستفتاء. وقد التحق فتح الله كولن بطريقة الصوفي سعيد النورسي، تلك الطريقة التي تنوء بنفسها عن التيار الإسلامي المتشدد، حيث استلهم منها حيادية حركة "الخدمة" التي أسسها، وعزوفها عن العمل السياسي المباشر؛ لأنه وببساطة لا يمكن – في نظره – الحفاظ على شفافية وتقدم المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والدعوية إلا أن تكون ملكا للجميع وعلى مسافة واحدة من مختلف الحكومات والأحزاب؛ هذه القاعدة ساهمت في بناء قواعد اقتصادية واجتماعية للحركة من جميع الفئات والاتجاهات. وقد بدأ الموريتانيون يتعرفون على هذه الشخصية الإسلامية العالمية مع ظهور مدارس "برج العلم ومركز حراء الثقافي" التركيين؛ الذين استطاعا خلال مدة زمنية قياسية أن يشكلا أكبر ركيزة للعمل الثقافي والتربوي والخيري؛ وقبلة للراغبين في صناعة الأجيال المحصنة بالعلوم الحداثية وخزانا للكفاءات العلمية وجسرا للتواصل بين موريتانيا والدولة التركية الواعدة. هذه الديناميكية في التحديث والتطوير والإبداع التي انتهجتها مؤسسات حركة "الخدمة" في موريتانيا؛ حفزت العديد من المؤسسات التعليمية الخاصة بدافع التنافسية التجارية إلى التحسين من جودة خدماتها وبرامجها التربوية وعززت من عطائها؛ وهو ما كان له الصدى الإيجابي على مستوى بناء الفرد في بلادنا؛ لأن السيد كولن ملهم هذه المؤسسات مؤسس حركة الخدمة أو"المعلّم الوقور" كما يسميه أتباعه اليوم كثيرا ما يدعو إلى المشاركة بدلا من التراجع، فالمجتمع في رأيه لا يمكن أن يتغير إلا إذا تغير الفرد، والسبيل إلى ذلك هو العلم. هذه الإرادة الصارمة في بناء عقل الفرد وتسليحه بالعلم أصابت ثغرة لم تستطع - أو لم ترد – الحكومات الموريتانية المتعاقبة سدّها، فقد كان المستوى التعليمي في الحضيض؛ سيما تحت تأثير "الإصلاحات التربوية" المتناقضة التي عرفتها العملية التربوية خلال العقود الأخيرة، والتي عمقت الهوة بين الأجيال الموريتانية التي لم تعد قادرة على التواصل بسبب الحاجز اللغوي الذي أدى إلى درجة عالية من التباين بين اهتمامات أبنائها بفعل أداء المدرسة الوطنية الكارثي. ومدارس برج العلم في موريتانيا تديرها حركة "الخدمة" إلى جانب مئات المدارس وعشرات الجامعات في تركيا وشتى أنحاء العالم، مع إمبراطورية إعلامية تشمل عددا هائلا من الصحف والفضائيات والمجلات ووكالات الأنباء وشركات الإنتاج السينمائي والدرامي واسعة الانتشار والتأثير؛ تسهل عليها الوصول إلى الناس ونشر أفكارها. وكذلك مؤسسات اقتصادية تضم آلاف المشروعات والشركات ورجال الأعمال. ويعمل فيها عشرات الآلاف من المتطوعين والموظفين والداعمين والمؤيدين، إضافة إلى رجال الأعمال والشركات التي تعمل في الاستثمار والمسؤولية الاجتماعية؛ والتي زارت وفودها بلادنا خلال السنوات الأخيرة؛ حيث أسهمت بشكل لافت في تنشيط الدورة الاقتصادية للبلد. إن قيام المدرسة بتقديم بعض المساعدات الخيرية ومشاركتها في برامج الإفطار والأضاحي إلى جانب نشاطها التربوي والثقافي الرائد أدّى إلى سوء الظن بها؛ ودفع بعض المتربصين المنافسين إلى التشكيك في حيادها وتشويه رسالتها ووصمها بالتسييس ؛ وهي فرية برهنت "الحركة الأم" في أكثر من 150 دولة على سذاجتها، فالحركة لا تملك مشروعاً متجاوزاً للدولة أو معادياً للسلطات، بل رأت دائماً عبر تاريخها ضرورة العمل تحت سقف الحكومات والتنسيق معها باعتبار أن القيادة السياسية هي "ولي الأمر" التي "تعرف أكثر، وتدير البلاد وتحرص على مصالح الشعب". والذين يطلقون تلك التهم دون أن يكلفوا أنفسهم مشقة البحث عن المعلومة من المصادر النزيهة والموثوقة، كما تقتضي ذلك شروط الموضوعية والمسؤولية، كان حريا بهم التريث والتبين وعدم التسرع في وصم تلك المدرسة التي هي فرع عن الحركة التي انتقل إشعاعها إلى مناطق مختلفة من العالم في صورة خدمات تربوية في كثير من الأحيان وخدمات اجتماعية في مناطق أخرى؛ وخاصة تلك التي تعيش حالة توتر سياسي أو ظروف قاسية دون أن يكون للحركة أيّ تدخل في المجال السياسي، أو أن تعتبر نفسها حركة ذات بعد سياسي؛ وهي بعيدة عن التلبس بالغموض، لأنه "بإمكان كل مَن يتهمها بإتباع أجندة سرية أن يأتي ويستفسر، فالحركة لا تخفي أي شيء". على حد وصف الصحفي المشهور سلجوك جوتاشلي، في صحيفة زمان في الرد على كاتبة ألمانية ناقدة. فهل بدأت مؤسسات الخدمة في موريتانيا في دفع فاتورة ريادتها من خلال التشكيك في حيادها وتشويه رسالتها في بناء العقل المسلم المتعلم بشبهة الاصطفاف الكاذب مع هذا الطرف أو ذاك؟!