أثارت ترشيحات حزب الاتحاد من أجل الجمهورية ردود أفعال متباينة، زاد، من تسخينها، أجواء الترقب والتوثب التي أعقبت التشاور الذي اعتمده الحزب كأسلوب غير مسبوق في الحياة الحزبية الموريتانية، والذي أصر على انتهاجه رغم تحذيرات البعض من أنه سيدفع ـ في وسط سياسي لا يخضع الطموح فيه لمنطق، ولا يقف التنافس لديه عند حد ـ إلى التعلق بسقوف من المطالب والمطامح لن تكون قابلة للتحقق، لكن الحزب ـ فيما يبدو ـ أصر على متابعة نهجه التشاوري، تجسيدا لرؤية قائمة على إصلاح سياسي جديد ، يتجاوز، رغم حداثة نشأته، بالممارسة الديمقراطية، جميع الأحزاب الموريتانية بما فيها تلك التي بلغت سن اليأس السياسي والانتخابي..
ولقد انتزعت تلك الترشيحات اهتمام الرأي العام الشعبي والسياسي والإعلامي، وصرفت الأنظار حتى عن أكثر التصرفات مثارا للاستغراب والسخرية كتلك التي تَقَوُّلَ بها من أرخى عنان تصريحاته بتهديد إعاقة المسار الانتخابي بعد أن تجاوزته الأحداث وأخذ يلفظ أنفاسه السياسية الأخيرة، وحملت الكثيرين إلى اتباع سبل في التقييم لا تستند على قوام متماسك ولا تركن إلى تمحيص موضوعي، ودفعت بالبعض ليتصرفوا حٌيَالَها أو لِيتحدَّثوا عنها دون فهْمٍ لمسوغاتها ولا لخلفياتها أو توقعاتِ نتائجها.
لذلك وجدت أن من الإنصاف أن أدلي ـ في شأن تلك الترشيحات ـ بالملاحظات التالية :
1. أن قادة الاتحاد من أجل الجمهورية قد اختاروا الطريق الأصعب حين اعتمدوا مبدأ التشاور كنهج سياسي وديمقراطي رغم وعيهم بتأثيراته الجانبية المحتملة ، اختاروه بديلا عن الأسلوب التقليدي الأسهل المعتمد لدى جميع الأحزاب الموريتانية عند اختيار مرشحيها. وكان حريا بالمحللين والمعلقين أن يمنحوا هذا التحول الجذري في الممارسة الديمقراطية الحزبية، ما يستوجبه من إشادة وتنويه ودعوة احتذاء.
2. أن قادة الاتحاد من أجل الجمهورية ـ إزاء تلك الترشيحات فاضلوا أيضا بين الإذعان لمجموعات الضغط القبلي أو المالي أو الكتلي التي لن ترضى إلا بما يشبع نزواتها الخاصة ويحقق مصالحها الضيقة، وبين التمسك بمبادئ الحزب ونهجه السياسي القائم على التغيير البناء المنفتح على المجتمع بمختلف شرائحه ومستوياتها واتجاهاتها، وبدا واضحا أن تلك القيادة انحازت للاختيار الأول، وهو الطريق الأصعب، لكنه الأنسب والأسلم، دون أن يدفعها ذلك إلى إقصاء مجموعة أو فئة أو شريحة، بل ظهرت على قدر مقبول من المرونة وحاولت التوفيق، ما أمكن، بين كثير من الاعتبارات، وأظهرت في حالات عديدة أن العامل الانتخابي البراغماتي الصرف لم يكن هو وحده الأمر الحاسم في الترشيح..
3. كان من نتائج هذا النهج متعدد الاعتبارات تصعيد مرشحين على مستويات عالية من الكفاءة والأهلية والمصداقية في بعض المجالس البلدية وفي القبة البرلمانية، بما ينسجم مع المقاربة المعتمدة لتجديد الطبقة السياسية بشكل مرن وواقعي ومتدرج.
4. لقد كشفت الترشيحات وردود الأفعال عليها مؤشرات بالغة الدلالة، منها حرية الاختيار السياسي التي أصبح يشعر بها الفاعلون السياسيون على نطاق واسع ، وبدرجة مكنتهم من اتخاذ قرارات لا تخفى الحاجة فيها إلى الإحساس بالحرية وبالشعور بالأمان من عواقب التعبير عنها، ومنها ضعف الانضباط الحزبي، وتندني مستوى وازع الأخلاق السياسي لدى أولئك الذين استسهلوا التخلي عن الحزب عند اللحظة التي مٌسَّتْ فيها مصالحهم الضيقة.
5. والمفارقة الأكثر إثارة للاستغراب تتجلى في كون معظم من خرج على اختيارات الحزب وترشح أو رشح منافسا له، كان قد أعلن تعهده ـ إبان التشاور ـ بالالتزام المطلق بقرارات الحزب سواء اختير أم لم يختر! ... وبعضهم كتب تلك التعهدات ووقعها, والأغرب من ذلك أن من بين هؤلاء من وافق قرارُ الحزب مقترحاتِه في الترشيح للبلديات، لكنه ترشح منافسا له في النيابيات عندما لم يستكمل له الحزب طموحاته المتفاقمة، فأصبح عرضة لينافس في النيابيات حزبه الذي رشحه في البلديات، وينافس في البلديات الحزب الذي ترشح منه في النيابيات .
6. أؤكد احترامي الشديد لجميع القبائل، خاصة تلك التي تحدث الناس عن استيائها من ترشيحات الاتحاد من أجل الجمهورية، وأقر بحق جميع المنتسبين إليها في تحقيق طموحاتهم الشخصية والجماعية، وأتمنى لهم الخير والتوفيق، لكن ذلك لن يحول بيني وبين التأكيد على أن بعض الأصوات التي ارتفعت تحت شعارات قبلية محتجة على عدم ترشيحها هي شهادة للحزب على أنه اتخذ القرار المناسب، فالترشيح باسم القبائل لا يمكن اعتماده تحت أي ضغط، وأي حزب سياسي يحترم نفسه ومبادئه لن يقبل الخضوع للابتزاز باسم قبيلة أو طائفة سياسية. خاصة أن غالبية من حمل شعارات الدفاع عن مصالح قبيلة، إنما حملها ـ في حقيقة الأمرـ دفاعا عن مصالح شخصية، مستخدما في ذلك اسم القبيلة، مما يثير التساؤل عن أي الطرفين أساء فعلا إلى القبيلة، وقد يصبح الذي استغل اسمها وأقحمه في أتون الصراعات الحزبية والسياسية هو الأكثر قربا من قفص الاتهام. أما القول بتهميش قبيلة ما، لأن شخصا منها بعينه لم يرشح، هو حكم لا يركن إلى منطق سليم، بل إن قوائم المرشحين تؤكد أنه لم يجلب أحد من المريخ ليرشح، إنما هي انتماءات يتقاسمها الجميع.
7. إن مسألة حٌجِّية اختيار بعض المتنافسين على أساس تمثيلهم للناخبين أو تعبيرهم عن رغبات جماعاتهم وتجمعاتهم هي مسألة نسبية ومتغيرة ولا يمكن أن تكون الفيصل النهائي في الاختيار والتفاضل، فكل من تقدم مترشحا للحزب لم يقبل أن هناك من هو أكثر منه تمثيلا وأهلية ووفاء للحزب وانضباطا ، نعم قد تكون هناك مستويات تأثير متفاوتة بالنسبة لهذا الشخص أو تلك المجموعة، غير أن ذلك لا يقتضي اقصاء الآخرين ، ولا يفرض استبعاد المعطيات الأخرى ، وقد تكون هناك أخطاء قد حصلت في التقدير أو قصور في تشخيص بعض الحالات ، وقد تكون بعض القرارات المتخذة في غير محلها، فالعمل البشري عرضة دائما لكل الاحتمالات، لكن الخطأ ـ إذا حصل ـ لا يبرر الخطأ ، وما حصل من بعض منتسبي الحزب في منافستهم له هي أخطاء لا يمكن تبسيطها، ولا التغافل عن دلالتها.
8. إن أخذ البعض على الاتحاد من أجل الجمهورية كونه لم يبذل ما يكفي من الاتصالات والمساومات والترضيات لاستبقاء المغاضبين والحيلولة بينهم وبين الخروج عليه، ربما يعود سببه إلى أن الحزب لم ير في تصرفات هؤلاء الذين تنكروا له ـ في أول امتحان ـ وتحللوا من التزامهم له وسارعوا إلى منافسته بحثا عن مصالح شخصية ضيقة، ما يستوجب استبقاءهم حتى لو كلفه ذلك خسارة بعض الأصوات.
9. إن تأكيد جميع الغاضبين من ترشيحات الاتحاد من جل الجمهورية على تشبثهم ببرنامج رئيس الجمهورية السيد محمد ولد عبد العزيز وتمسكهم بنهجه السياسي ومشروعه المجتمعي، وبحثهم عن الترشح من خلال حزب داعم لبرنامجه ، هي دلالة واضحة على أن من يريد أن ينال ثقة الناخب الموريتاني عليه أن يكون ملتزما بالولاء لمسار التغيير البناء الذي يجري على قدم وساق في مختلف أصقاع موريتانيا وفي جميع مجالات التنمية، بفضل التنفيذ المتواصل للبرنامج الانتخابي الذي تقدم به السيد محمد ولد عبد العزيز إلى الشعب الموريتاني ونال به ثقة أغلبيتهم في انتخابات 2009 ، وانضمت إليه لاحقا حشود متزايدة من الشعب بعد أن ثبت لهم صدق التزاماته وجدية إصلاحاته، و لمسوا في الميدان العملي ضرورة دعمه لتحقيق النمو والازدهار والاستقرار لجميع الموريتانيين...
لكن ذلك لا ينفي أن بعض الفاعلين السياسيين في حزب الاتحاد من أجل الجمهورية قد تصرف اتجاه حزبه تصرفات خاطئة، في الوقت الخطأ وبالأسلوب الخطأ، حتى لو لم تفض تحركاته إلى وجهة خطأ.