منذ نهاية سنة 1975 وطوال سنة 1976، نفذت جبهة البوليساريو سلسلة هجمات طالت العديد من المدن وإن كانت محدودة الفعالية (عين بنتيلي، بير أم اغرين، النعمه، وانواكشوط في 8 يونيو 1976)، غير أن هذه الهجمات أصبحت منذ 1977 أكثر تنسيقا وخطورة إذ اتجهت نحو التركيز على السكة الحديدية الممتدة من ازويرات إلى نواذيبو، تلك السكة التي بنتها فرنسا وتتولى صيانتها والتي تعتبر الشريان الأساسي لاقتصاد البلاد.
وقد اعتمدت جبهة البوليساريو على تكتيك حرب العصابات معتمدة على أرتال سريعة الحركة وقادرة على مفاجأة الهدف والعودة بسرعة من حيث جاءت. وفي هذه الأرتال احتلت سيارة "لاندروفير" محل الجمل وبندقية كلاشنكوف -وأحيانا صواريخ أرض جو- محل السيف. وأمام هذا التكتيك وقف الجيش الموريتاني عاجزا.. لقد تدخل الجيش المغربي لحماية بعض المدن المهددة وعلى المستوى النظري كان بإمكان الجيش الموريتاني التوزع إلى وحدات متنقلة تقوم باعتراض قوافل البوليساريو لكنه في سنة 77 كان يفتقر إلى الخبرات والوسائل الضرورية لتنفيذ مثل هذه المهمة. هكذا تعرضت مدينة ازويرات في فاتح مايو 1977 لهجوم قتل خلاله فرنسيان وتم خلاله خطف ستة رعايا فرنسيين. وتعرض هذا القطاع أيضا لهجوم ثان، ثم لهجوم ثالث استهدف يوم 25 أكتوبر القطار وتم خلاله أسر فرنسيين (2) و18 موريتانيا، مما وضع فرنسا أمام مشكلة تأمين رعاياها وموريتانيا أمام الحفاظ على وجودها.. من هنا ولدت فكرة تدخل عسكري فرنسي.
كانت طائرات استطلاع فرنسية من نوع "آتلانتيك" قد بدأت منذ سبتمبر في القيام بطلعات منتظمة لمراقبة منطقة السكة الحديدية، انطلاقا من قاعدتها في دكار، وتمت دراسة عدة بدائل وتعبئة وسائل التدخل. ومع أن موريتانيا كانت قد نددت باتفاقياتها للدفاع مع فرنسا سنة 1972، فإنها قد توجهت إلينا طالبة الدعم، ولم يكن بإمكان فرنسا أن تقف مكتوفة الأيدي أمام هذا النداء، ليس لأن أمن رعاياها (المساعدين الفنيين العسكريين والمدنيين) أصبح مهددا فحسب وإنما أيضا لأن تفكك موريتانيا على الصورة التي ظهرت عليها آنذاك كان من شأنه إثارة عدم استقرار شامل في منطقة غرب إفريقيا، لم تكن أي من دول الجوار (المغرب، الجزائر، مالي، السنغال) لتقبل بموقف المتفرج عليها. ومن دون شك يكمن هنا السبب العميق للتدخل الفرنسي نظرا لأهمية الرهان الاستراتيجي.
لقد تمت الموافقة من حيث المبدأ على التدخل الفرنسي في اليوم الموالي للهجوم على القطار، يوم 28 أكتوبر، وتم تعيين جنرال من القوات الجوية قائدا للعملية وبدأت الاستعدادات، حيث أطلق عليها عملية "خروف البحر" Lamantin وهو اسم غريب وغير متناسب مع عملية مماثلة.
لم تكن فرنسا عبر هذا التدخل العسكري تنوي القضاء على جبهة البوليساريو، وإنما كانت تهدف إلى حملها على وقف هجماتها من أجل السماح لموريتانيا بأن "تأخذ نفسا" وبأن تستعيد الثقة في نفسها، ومن أجل توفير الظروف المناسبة لحل سياسي للمشكلة. وقد كلفت القوات الجوية بتنفيذ الأساسي من المهمة حيث كان عليها أن ترصد أحد –أو عدة- أرتال البوليساريو وأن تتعامل معه بكثير من الفعالية لتنتزع من الجبهة الرغبة في العودة للهجوم ثانية. لم يكن من حق قيادة العملية أن تتخذ قرارا بإطلاق النار من دون طلب من الحكومة الموريتانية وموافقة على هذا الطلب من السلطات الفرنسية، لذلك كان عليها إقامة نظام يسمح لها بالتدخل السريع فور حصولها على الموافقة على إطلاق النار، وهو ما يعني أننا كنا إزاء عملية جد دقيقة يجري تنفيذها بوسائل محدودة وإن كانت متطورة.
بعد وضع مخطط العملية مع قيادة الأركان، توجه القائد صحبة مساعديه (الأول من القوات البرية والثاني من البحرية) إلى دكار يوم 2 نوفمبر، ترافقهم وحدة مقلصة تتكون من قيادة أركان مصغرة من التشكيلات المختلفة للقوات المسلحة وعناصر من القوات الجوية ومجموعات مظليين من القوات البرية. وكان على الجميع الاختباء عن أعين بعض الصحفيين الذين يبحثون في دكار وسانلوي عن قوة مظليين يعتقدون أن فرنسا ستستخدمها في تدخلها العسكري، إذ لم يكونوا حينها يعتقدون أنها يمكن أن تتدخل بطريقة أخرى.
وحين لم يتمكن الصحفيون من ملاحظة أثر لقوة المظليين أوقفوا بحثهم في وقت كان فيه قائد العملية (الجنرال ميشيل فورجي) يجري الاتصالات الضرورية مع السلطات المعنية ويقيم هيئاتها القيادية. أقيم مركز متقدم للقيادة في نواكشوط مكون من ضباط متخصصين في الاتصالات وأحيط بالكثير من السرية، وأقيم مركز آخر للعمليات واللوجستيك في "أواكام" (في السنغال على بعد 450 كلم من نواكشوط). ورغم أن الهيئات القيادية أصبحت جاهزة خلال أيام، فإنه كان ينبغي انتظار ثلاثة أسابيع لتكتمل الجاهزية، أي لتصدر الأوامر إلى الطائرات المشاركة في العملية بالتوجه إلى دكار ويتم الإذن للجنرال المعين بالقيادة الميدانية للقوات.
حينها كانت طائرات الاستطلاع المتواجدة في دكار تقوم بطلعاتها فوق موريتانيا بأمر من قيادة الأركان، وكان الوضع يزداد سوء منذ 27 أكتوبر. ففي 4 نوفمبر تعرض "حاسي بير كندوز" المحاذي للسكة الحديدية للهجوم، وبعد 3 أيام تعرض مركز شمال شرق أطار لهجوم آخر نفذه رتل من 50 سيارة وفي يوم 22 من نفس الشهر هاجم رتل مكون هو الآخر من 50 سيارة القطار عند بلدة اتواجيل.
وكان الهجوم الأخير مناسبة أعطت فرنسا من خلالها الضوء الأخضر لعملية خروف البحر، حيث أصبح الجنرال قائد العملية منذ يوم 22 نوفمبر "قائدا للقوات الفرنسية في موريتانيا"، وتوجه مباشرة إلى مقر القيادة المتقدم في نواكشوط في وقت عادت فيه أربع طائرات جاكوار من مهمة تدريبية في التوغو لتوضع في حالة تأهب في دكار، ولتنضم إلها بعد يوم واحد أربعة مقاتلات أخرى. لقد بدا أن الوقت قد حان لإعطاء إشارة الانطلاق، غير أنه كان ينبغي الانتظار لعدة أيام قبل الحصول على الضوء الأخضر من فرنسا.
في يوم 2 ديسمبر تعرض مركز بلنوار لهجوم من طرف رتل من البوليساريو احتله لمدة ثلاث ساعات قبل أن يعود أدراجه تحت مراقبة طائرة استطلاع فرنسية، وتم اتخاذ كل التدابير للرد على الهجوم بما في ذلك وصول طائرات جاكوار وتحليقها فوق الهدف مباشرة لمدة ساعتين، غير أن الضوء الخضر لم يأت من فرنسا، وهو ما كان له مفعول سلبي على معنويات القوات الفرنسية وعلى الموريتانيين. غير أن العملية استفادت من الدروس التي استخلصتها من تلك التجربة، إذ تمكن الطيارون من مراقبة هدفهم لفترة كافية عن قرب واستطاعوا التعرف عليه بشكل مكثف (نظام السير، محتوى السيارات، نوعية الأسلحة...). وكان من اللافت خلال هذه المتابعة عدم صدور أي رد فعل من الرتل على الطائرات التي راقبته عن قرب طوال هذه الفترة حيث واصل انسحابه وكأنها غير موجودة.
جاء الضوء الأخضر يوم 12 ديسمبر بعد هجوم تعرض له القطار صبيحة نفس اليوم جنوب ازويرات، وكانت حصيلته مؤلمة بالنسبة للموريتانيين من حيث عدد الضحايا وإضرام النار في القطار. وكعادتهم مكث المهاجمون في مكان الهجوم لحوالي ساعة قبل أن ينسحبوا متوجهين شرقا قبيل منتصف النهار.
كانت طائرتا الاستطلاع والقيادة تراقبان الرتل وفي هذا الوقت أعطت فرنسا ضوءها الأخضر. وحوالي الساعة الواحدة أصبح الرتل في متناول سربان من طائرات جاكوار. كان الرتل المكون من 50 سيارة يمتد على مسافة 5 كيلومترات ويجتاز منطقة مكشوفة يمكنه السير فيها بسرعة كبيرة.
أشعر الطيارون بوجود رتل موريتاني في المنطقة يطارد المهاجمين، غير أنه كان بعيدا لدرجة لا تسمح له باللحاق بهم، فكان عليهم أن يتكفلوا بالمهمة. وبعد تدخل الطائرات المهاجمة اشتعلت النيران في ربع الرتل وتمكن 13 أسيرا موريتانيا من التخلص من الأسر. استمرت طائرات الاستطلاع في مراقبة بقية الرتل طوال الليل حيث تمكن من قطع 300 كلم في منطقة وعرة قبل أن يتوقف للاستراحة السادسة صباحا. لم يعط الضوء الأخضر لمهاجمة بقية الرتل إلا حوالي الخامسة مساء حيث أضرمت طائرات الجاكوار النيران في 20 من سياراته.. لقد كان درسا قاسيا وهو الهدف الذي سعت العملية لتحقيقه.
أعطي ضوء أخضر ثالث يوم 18 ديسمبر بعد هجوم على مركز اتميمشات وتم إضرام النار في نصف السيارات الخمسين التي نفذت الهجوم واستطاع الجيش الموريتاني –الذي وصل مباشرة بعد إطلاق النار- استعادة الكثير من التجهيزات، وتمت ملاحظة خدوش غير خطيرة على بعض طائرات الجاكوار.
بالطبع لم يتمكن التدخل الفرنسي من حل الأزمة، غير أنه مثل تحولا في مسارها حيث أوقفت البوليساريو هجماتها المكثفة القادمة من تيندوف لمدة شهر واكتفت بعمليات تخريب للسكة انطلاقا من قواعد داخل التراب الصحراوي لم تكن نتائجها خطيرة وكان في متناول الجيش الموريتاني –الذي استعاد الثقة في نفسه- التصدي لها. وإذا كانت حامية اتواجيل لم تستطع مقاومة هجوم 25 يناير 1978، فإن الجيش الموريتاني تصدى بنجاح لهجمات مماثلة في تشله يوم 2 فبراير واتواجيل يوم 28 من نفس الشهر.
وفي 2 مايو اعترضت قوة موريتانية رتلا من البوليساريو كان يسير باتجاه السكة الحديدية قرب ازويرات، وتم إعطاء الضوء الأخطر للتدخل من أجل مساعدة القوة الموريتانية التي عانت وضعا صعبا.
وخلال يومي 2 و 3 مايو استطاعت طائرات جاكوار التخلص من ثلثي الرتل المهاجم وذلك رغم أن إلتحامه بالقوات الموريتانية جعل المهمة صعبة.
بعد هذه المعركة تركت الاشتباكات العسكرية مكانها للأحداث السياسية التي احتلت الواجهة.. ففي 10 يوليو حصل انقلاب عسكري على المختار ولد داداه ودخلت موريتانيا في مرحلة الخروج من مشكلة الصحراء الغربية. وفي شهر أكتوبر وقعت موريتانيا والبوليساريو اتفاقا لوقف إطلاق النار، وفي 5 أغشت 1979 استعادت موريتانيا علاقاتها مع الجزائر واتفقت مع البوليساريو على أن أيا منهما ليست له أطماع في بلد الآخر. وفي سبتمبر من نفس السنة غادرت القوات المغربية الأراضي الموريتانية، بينما ظلت قوة عملية خروف البحر في مكانها لغاية شهر مايو 1980، ومع أنها كانت قوة صغيرة إلا كانت ستتلقى الدعم الضروري بسرعة عند الحاجة إليه. وقد رابطت قوات فرنسية لبعض الوقت شمال نواذيبو قبل أن يغادر الكل في ربيع 1980.
وإذا كان ليس من مهمتنا تقديم حصيلة سياسية لهذه العملية، فإنه من الجدير بالملاحظة أن موريتانيا وإن اضطرت للتخلي عن طموحاتها السابقة إلا أن سيادتها ووحدتها –اللتين واجهتا خطرا كبيرا- تمت صيانتهما كما تم تفادي زعزعة استقرار قرن غرب إفريقيا. وقد ساهمت عملية خروف البحر –بأسلوبها وبنتائجها- بدرجة كبيرة في خلق الظروف المواتية لهذه الوضعية.
ملخص مقال لقائد العملية الجنرال ميشيل فورجي
ترجمة "أقلام"
يمكن قراءة نص المقال بالفرنسية: Mauritanie 1977 : Opération Lamentin