قبل الدخول في التفاصيل ارتأيت أن أصدر هذا المقال برسالتين تبصرة و ذكرى لكل عبد منيب ثم إبداء بعض الملاحظات الأولية: فالرسالة الأولى للرئيس و الزعيم أحمد ولد داداه. فإني أعجب لأمر هذا الرجل الطيب الأصل و المنبت الورع و المستقيم، حسن الطوية. و أعي ما أقول لأني عاشرته و شاهدت منه قولا و فعلا ما يستوجب شهادتي تزكية. فأقول و بالله التوفيق: لا يجرمنك أيها الصديق شنآن قوم يضيق بك ما يسعهم و يدنسك ما لا يدنسهم. فلهم مآرب ليست مآربك و مشارب ليست مشاربك و ترجو من الله ما لا يرجون. فمقامك أسمى و أعلى من أن تدنس لسانك الرطب بتلاوة القرءان و صحيفتك البيضاء إن شاء الله بخطابهم. و لك في رسول الله أسوة حسنة فكان إذا استوجب فرد أو قوم منه ردة فعل قال صلى الله عليه و سلم: “ما بال أقوام” دون أن يخص المعني باسمه مهما عظمت فعلته. ثم إنك تعلم حفظك الله أن الرجل يتكلم بكلمة من كلام السخط ما يلقي لها بالا فتهوي به في جهنم سبعين خريفا… و يقول الرجل كلاما ما يلقي له بالا، يحسبه هينا و هو عند الله عظيم، ناسيا أنه “ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد” و أنه “من كان يؤمن بالله و اليوم ألآخر فليقل خيرا أو ليصمت”. هذه الرسالة أوجهها لجنابك الموقر لمعرفتي بك و حسن الظن بك أنك ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ثم امتثالا لقوله تعالى “و ذكر بالقرآن من يخاف وعيدي” و قوله ” و ذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي و لا شفيع و إن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها”. أما الرسالة الثانية فإلى إخوتي و أصدقائي و رفاق الدرب و الكفاح في أحلك فترات تاريخ هذا البلد، أعني قادة حزب “تواصل” المحترمين. إن انتماءكم لمرجعية إسلامية يلزمكم أكثر من غيركم درجة عالية من الاستقامة في القول و العمل و مراقبة الحق سبحانه و تعالى في السر و العلانية “و إلا كان عليكم ما على الأريسيين”. و أنتم تعلمون أن الحسنة و السيئة تعظمان حسب الزمان و المكان و حسب مقترفهما، لذا يقال أن حسنات الأخيار سيئات الأبرار و أن الحسنة حسنة و هي في بيوت النبوة أحسن و السيئة سيئة و هي في بيوت النبوة أسوء: “يا نساء النبي من يأتي منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين و كان ذالك على الله يسيرا” (الأحزاب). ” فإذا أحصن (أي الإيماء) فإن آتين بفاحشة فعليهن بصف ما على المحصنات من العذاب” (النساء). ثم إنكم تعلمون كذلك أنه “ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد”، إما في كفة الخير و إما في كفة الشر و أن حصائد الألسنة و بال على المرء يوم القيامة حيث “و نضع الموازن القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا و إن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها و كفى بنا حاسبين” (الأنبياء). ففي أية الكفتين تضعون خطابكم الداعي للعنف و الفتنة و زعزعة الأوضاع الأمنية للبلد و انتزاع السلطة عنوة و قهرا؟ ففي أية الكفتين تضعون سب و شتم و قذف و تجريح أخ لكم في الإسلام ناهيك عن كونه حاكما وجبت شرعا طاعته في ما يرضي الله، و قد اعترفتم مبايعة بصحة و سلامة انتخابه و شرعية توليه سدة الحكم؟ فما الذي جرى فجعلكم في حل من عهدكم و بيعتكم و على أعقابكم تنكصون دون سابق إشارة؟ عهدتكم قائمين بواجب العبودية و حقوق الربوبية، فرسان بالنهار رهبان بالليل و عهدت لخطابكم حلاوة و طلاوة بعبق الإيمان. أسأل الله لكم الثبات و أن لا يسلبكم شيئا من ذلك. و لا تنسوا أن الأمور بخواتمها و أن العاقبة للمتقين. أما الملاحظات فهي كالتالي: · يحار المرء اليوم وهو يتابع خطابات وتصريحات قادة منسقية المعارضة خلال جولتهم الماراتونية في الداخل.. فمن حق قادة المعارضة الدعوة للإصلاح والتغيير، من حقهم الدعوة للثورة.. وكل ما تخوله الدعاية بظاهرها وباطنها ما لم يتناقض مع جوهر العمل السياسي في بعده الأخلاقي على الأقل..
· زعماء المعارضة يجوبون ولايات البلاد في مواكب من أكثر سيارات العالم رفاهية، حيث لا ترى عليهم آثار السفر، ولم تفقد وجوههم نضرتها رغم عام الجفاف هذا، تستقبلهم موائد الملوك والسلاطين، يدخلون كل مدينة وقرية بسلام وأمان غير خائفين. لا سلطة تضايقهم ، ولا حتى أحزاب موالاة رفعت لافتة واحدة للتشويش على مهرجاناتهم. و فتحت كل الأبواب أمام زعماء المنسقية دون مضايقة من أي نوع، حتى من النوع المتعارف عليه في منافسات الأحزاب من حشد مضاد ودعاية مغايرة، بل ترك لهم المجال واسعا ليجربوا حظهم وليواجهوا الجمهور بخطابهم وبرنامجهم السياسي. · لكن المفاجأة هنا أن هذا البرنامج السياسي لا وجود له في إضبارات أحزاب منسقية المعارضة، فالبرنامج الوحيد الذي بات بحوزة زعماء المنسقية هو برنامج شتائم وتبشير بـ”مدرسة رعب” قائمة على الدعوة للفتنة والفوضى والشغب وإثارة النعرات والاضطرابات والعصيان المدني، وتثمين سكب الدماء البريئة، والتملص من الأخلاق السياسية العامة.. إنها الدعوة للعنف، والتغيير بالقوة وحتى للانقلابات العسكرية وفق مرحلة شعارها “أنا والطوفان من بعدي”. هذه هي “مدرسة الرعب” التي يروج زعماء المنسقية لبرنامجها. · إن قادة المنسقية لم ينتبهوا لحجم الفحشاء اللفظية التي تتحرك بها ألسنتهم، إذ أن المتتبع لخطاباتهم يشعر بالشفقة وهو يشاهد هؤلاء الزعماء ينزلون في خطاباتهم وصيغهم إلى رتبة كنا نجلهم عنها مهما كانت درجة الحقد و الكراهية الشخصية التي تملأ قلوبهم تجاه الرئيس محمد ولد عبد العزيز. · إن العبارات البذيئة التي تعاطاها بعض هؤلاء مؤخرا تدعو إلى الغثيان ليس لأنها تصف بعبارات سوقية ظالمة رجلا انتخبه الشعب الموريتاني رئيسا له ويمثل أمله في التطور والتنمية فحسب، بل لأنها تنبئ عن كارثة تتعلق بأخلاق شيوخ مسنين كان يفترض أن يكونوا قدوة في حسن الألفاظ وترفع الخطاب فإذا بهم يتهافتون على الشتائم والسباب والقذف في أعراض الناس.. وكأن مهمتهم باتت منحسرة في قلب الحقائق.. ولا شيء أمر وأدهى من أن يضع الرجل نفسه عدوا للحق.. إنها محنة حقيقية.. فالرجال بأخلاقهم قبل كل شيء.. قبل علمهم ومالهم وطموحهم.. وإذا كان الذين سمعناهم يوزعون الشتائم على قدر ألفاظهم وسلوكهم فقل على المعارضة السلام.. إنها انتحرت أخلاقيا و ها هي تحتضر لفظيا أمام الملأ.. تشيعهم نظرات الاستغراب في موسم انحطاط الأقوال وانعدام الأفعال. و كأن الهزيمة التي يشعر بها قادة المعارضة، على المستوى الميداني، والأخلاقي، بدأت تخرجهم عن كل حدود، وعن كل مألوف.. · وإن تعجب فعجب أن ترى الشيوعيين و اللائكيين الموريتانيين يتوسلون إلى الله طلبا للتغيير…إنه حدث مهم جدا في التراث السياسي الموريتاني الذي نشاهد فيه اليوم الشيوعيين يصطفون في حلف التنظيم السلفي عندما يرددون كلمات تبرر استهداف بلدنا و قطع الرؤوس وسفك الدماء والاعتداء على الأموال والأنفس بشعار “حرب الوكالة” عن الصليبيين واليهود متناسين أن الرئيس محمد ولد عبد العزيز هو أول رئيس عربي يطرد سفارة إسرائيل من بلده. و لعل الله قال حينها: “لن يضر ولد عبد العزيز ما فعل بعد اليوم”. أن نرى دهاقنة الشيوعيين الموريتانيين يتهافتون على إصدار الفتاوى الشرعية بالخروج على الحاكم شيء يبعث على الدهشة.. ولم يكن أي مخرج مسرحي ليتصوره في المشهد المحلي، حيث رفاق لينين وماو ينقبون في “حواشي الطرر” و “الاحمرارات” بحثا عن نص طالما أنكروه وسخروا منه، و ولوه الدبر مستبدلينه بآياتهم الحمراء.
قبل أن تذهب التحليلات بالبعض إلى تفسير هذا المقال تفسيرات سقيمة غير واردة، أود القول: أولا: إن قادة المنسقية يدركون قبل غيرهم أنهم فشلوا في استنساخ أي من مظاهر الثورة في موريتانيا، ولهذا نراهم اليوم يركزون على الجيش ودعوته للقيام بانقلاب عسكري، وذلك دليل دامغ على عجزهم عن تحريك الشارع. ولهذا أيضا نسمع كل تلك التهديدات بالإطاحة بالنظام. والتهديد سلاح الضعيف، كما يقال.. فالقوي لا يهدد وإنما ينفذ.. وعلى قادة المعارضة أن يحددوا موقع الجيش.. هل هو في الأحزاب السياسية.. أم في “حرب الوكالة”.. الجيش الموريتاني اليوم يرابط على الثغور، ثغور العزة والكرامة، ويضرب أعداء الشعب والوطن خارج وداخل البلاد.. ولا تعول عليه موريتانيا وحدها، بل الدول الإقليمية العربية والإفريقية والغربية، التي يكفي هذه السنة حجم اجتماعات وزراء خارجيتها ووزراء دفاعها وقادة أركان جيوشها ومدراء مخابراتها في نواكشوط… إن موريتانيا الدولة الإقليمية حلم يتجسد وكم كان بعيدا.. ثانيا: إن رفض قادة المنسقية للحوار الذي توصل لنتائج باهرة، ليس سوى تكتيك و ذر للرماد في العيون، لأن هذا الحوار وحزمة نتائجه هو لمصلحة الجميع بما في ذلك المعارضة المتطرفة و هو لمصلحة الديمقراطية والإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي والحقوقي، وهو أولا وأخيرا تحكيم لصندوق الاقتراع، الذي يدرك ألئك القادة في المنسقية أنه ليس لصالحهم في هذه الظرفية بفضل ما يراه الشعب الموريتاني يتحقق على أرض الواقع، وبفضل قرب الرئيس محمد ولد عبد العزيز من نبض شعبه، ولا أدل على ذلك من الحركة المطلبية الاجتماعية الواسعة التي هي ظاهرة صحية، خاصة مع ما تبذله الحكومة من جهود لتلبية مطالب تلك الحركة التي يقودها مواطنون ظلوا لفترة طويلة من الزمن يطحنهم الفقر والتهميش والنسيان، فإذا بهم اليوم يجدون في حائط القصر الرئاسي ما يسندون به ظهورهم تلبية للمطالب ورفعا للظلم ووعدا ببذل المزيد. ثالثا: بسبب عوامل متعددة منها الاستقرار، والتخطيط الاقتصادي، وحسن التسيير، تنبثق اليوم من الرمال الموريتانية تجربة تنموية لافتة، تطال البنية التحية والمشاريع الإنمائية التي لا غبار عليها أمام موجة مشاريع المياه، والكهرباء، والطرق، والإسكان، والتعليم، والصحة، والاستثمار، والتشغيل، والنقل، والتصنيع، والتخطيط…إلخ. رابعا: لا يوجد أي تضييق على الحريات العامة، والعمل السياسي، فالبلاد خالية من أي سجين رأي.. والمؤسسات الدستورية والإدارية تعمل بانتظام وفاعلية.. أنتجت في هذه الفترة الوجيزة أكبر إصلاح في تاريخ البلاد للمنظومة القانونية، وصممت أكثر المشاريع طموحا.. إن هذه التجربة المتميزة هي في الحقيقة علامة فارقة في منهج تسيير شؤون البلاد،.. إن الثورة تجري في موريتانيا بناءا وتحريرا، والفارق أنها تجري بدون ضحايا وبدون ضجيج، ولله الحمد. خامسا: إن من عدم واقعية قادة المعارضة الموريتانية المكابرة و إغماط كل الانجازات التي تحققت لموريتانيا في ظرف وجيز لا يتعدى سنتين كمن يريد حجب الشمس بغربال، في الوقت الذي تعترف الدول العربية والغربية (أمريكا، فرنسا.. الجزائر، المغرب…) بأهمية ما حققته موريتانيا في ثلاثة محاور: بناء الجيش وتسليحه والسيطرة على حدود البلاد، والمشاريع التنموية، ومحور تطوير التجربة الديمقراطية. سادسا: لم يعد لدى قادة المنسقية سوى ترويج تجارة بائرة تقوم على الادعاء والشحن السلبي، في محاولة خاسرة لتفقير المسلكيات والأخلاق.. ولكن لا ربح من زراعة الشوك، و ستذهب حقن السموم اللفظية جفاء.. ويبقى ما ينفع الناس. سابعا: كلما قيل لكم تعالوا إلى كلمة سواء قلتم لا.. كلما قيل لكم تعالوا نبني سويا وطننا قلتم لا… هذه “اللاءات الحدية” تمثل عقدة في سيكولوجية المنسقية..انتهت بقادتها إلى التفرغ لقدح شرارة الذم الأعمى، والتخبط اليائس أمام رفض الشارع الموريتاني لدعوة الفتنة والطيش.. اذهبوا فأنتم الطلقاء..فلن ينزعج الرئيس محمد ولد عبد العزيز من سبكم و شتائمكم و تهديداتكم بالإطاحة به… ولن يرفع الحصانة عن أي برلماني كما تروجون ذلك و ترجونه… و لن يعتقل أحد على خلفية خطابه مهما بلغ من الحدة… ولا طريق أمامكم سوى صندوق الاقتراع الذي تبغضونه… و عنده يجتمع الخصوم… و عنده يكرم المرء أو يهان… وما هي إلا أشهر معدودات ويقول الشعب الموريتاني كلمته.. ليركنكم مرة أخرى في زاوية ضيقة من حجم ما تسوقون. ثامنا: لقد اخترتم منذ هزيمتكم المدوية في الانتخابات الرئاسية 2009، أسلوب المرجفين في المدينة.. إرجاف المدن زمنه ولى.. نواكشوط، وكل مناطق البلاد، ورشة للتغيير والبناء والإصلاح والحوار والانفتاح والأمل والحلم… وقبل كل شيء الشجاعة والقدرة على الفعل الخلاق، والعزم الفولاذي الذي لا يلين في سبيل تحديث الدولة وبنائها، بعيدا عن سوق المساومات الضيق. في نواكشوط فارس لا يخضع للإرجاف.. واهم من يتصور أن “رجل لا للصهيونية.. لا للفقر.. لا للقاعدة..”.. يمكن أن يخذله الشعب الموريتاني الوفي الأبي.. رجل مصحف شنقيط، ومسجد شنقيط.. وإذاعة القرآن.. وتكريم العلماء، رجل الانفتاح والحرية والتسامح والبناء.. فلا ترشقوا بسهامكم اللفظية وجه الشمس.. وإياكم والخيول الخشبية التي يزيـّن لكم الوهم ركوبها.. فهي لن تتحرك، ومهما حقنتم فيها من دماء الألفاظ المنحطة فهي لن تستطيع الوقوف… أما قطار الإصلاح فيواصل مسيرته المظفرة، لا يلوي على أحد…فلا يفوتنكم الركب، فلا تفوتنكم الفرصة… تخلوا عن شيطانكم و بادروا إلى مسيرة التحدي، مسيرة بناء الدولة الموريتانية… موريتانيا الجديدة… موريتانيا للجميع و بالجميع. و الله من وراء القصد و يعلم المفسد من المصلح. فإليه نضرع و نبتهل أن يذهب غيظ قلوبنا و أن يجمعنا على الحق حتى تضمحل موالاتنا و معارضتنا في ما فيه الخير و الفلاح للعباد و البلاد.