الحوض الشرقي أو( الولاية الأولي) هو ذلك الجزء من التراب الوطني الذي ظل يعيش في عزلة تامة ويتعرض للتهميش والإقصاء والإستغلال السياسي والممارسات التسلطية العنيفة ضد ساكنيه باعتبارهم متخلفين وأميين وهم في أحسن الأحوال "خزان انتخابي" لكل الطامحين للزعامة من كل مناطق البلاد،لأنه لم يسجل أن تجشمت مجموعة منظمة عناء النضال والعمل الجاد من أجل حقوق تلك الولاية النائية في تصنيف الإخوة في الشرق والشمال والجنوب . فهل يتحول الحراك الشعبي ضد زيارة ولد عبد العزيز إلي عمل جاد ضد التهميش والعزلة والإقصاء؟ ضد الفقر و الجهل والمرض؟ ضد تلاعب المسؤولين وتطاولهم وتسلطهم علي المواطنين ؟
إن ولاية الحوض الشرقي تمتد علي مساحة واسعة متاخمة لدولة مالي وإقليم أزواد المتلاحم سكانيا مع سكان المنطقة ، وقد بقيت أرض الولاية ضمن الحيز الجغرافي لدولة مالي أثناء الحقبة الإستعمارية ولم تنفصل جميع أراضي الولاية عن الدولة المالية إلي يومنا هذا ، فلا تزال جيوب من الأرض الزراعية والرعوية والآبار ضمن حدود الدولة المالية كما لا تزال قرى مالية تقطن أرض الولاية في إطار التفاهم التاريخي والأخوي بين الشعبين وتعد الحدود المشتركة بين الولاية ودولة مالي الشقيقة أرض تعايش وتفاهم وتبادل تجاري ونشاط تنموي ورعوي قديم ومستمر وقد وجد السكان المحليون في دولة مالي وعاصمتها بمكو مصدرا هاما للتزود بالإحتياجات الضرورية من مواد إستهلاكية وعلاجية وغيرها .
وعند قيام الدولة الموريتانية المستقلة وانضمت الولاية رغم بعض الدعوات المعترضة علي ذلك (جماعة أماعلي وغيرها) وقد وجدت الولاية لدى حزب الشعب ورئيسه المرحوم الأستاذ المختار ولد داداه إرادة قوية لتحقيق التنمية الإقتصادية والنهضة الثقافية وفك العزلة وكان طريق الأمل أول إنجاز استراتيجي وحدوي وطني جبار لصالح تحقيق الوحدة الوطنية وربط أجزاء الوطن ، حدث ذلك وإمكانيات الدولة الفتية لا تزال محدودة والأطماع الخارجية متكالبة عليها ومع ذلك انتعشت الآمال في الحوض الشرقي وشارك أبناؤه مشاركة فعالة في كل السياسات الشعبوية والتنموية التي رسمها حزب الشعب وكان الأمناء العامون لفروع الحزب في الولاية منتخبون بشفافية رائدة وكان مستوى التمثيل داخل هيئات الحزب العليا كبيرا جدا، شعر الناس وقتها بالانتماء الحقيقي للوطن والمشاركة في بنائه بحيوية واندفاع معتبرين .
وبعد قيام أول انقلاب عسكري قاده بعض أبناء المنطقة ضمن تشكلة اللجنة العسكرية للإنقاذ الوطني ثم الخلاص الوطني ثم .....ثم تسميات أخرى علي هذا النحو! بدأت الأمور تعود إلي سابق عهدها وتكرست العزلة من جديد ومارست "هياكل تهذيب الجماهير" دورها التخريبي في تفتيت أوصال المجتمع وزرع المحسوبية والجاسوسية والعمالة والإسترزاق في صفوفه وداخل مفردات ثقافته.
وبدأ التناحر بين أطياف المجتمع الواحد وانتشرت سياسة "فرق تسد" وضاعت جهود المخلصين من أبناء المنطقة وتشتت الأسر وانشغل الناس في الفتنة السياسية الداخلية والتناحر المصلحي الذاتي.
استمر التدهور مع جميع الانقلابيين الذين استفادوا من وضعية التناحر والتنافس السلبي بين الإخوة وعملوا علي تعميقه واستثماره لصالح تكوين ما عرف ب "خزان الانتخاب ". وقد قام هؤلاء المستحوذون علي السلطة في البلاد كلها بواسطة انقلاب بعضهم علي بعض (هيدال ، معاوية ، عزيز) .بتمكين أشخاص أميين أحيانا وهامشيين ومتخلفين أحيانا أخرى على حساب شخصيات محورية في الأبنية الاجتماعية التقليدية وذلك لتوجيه المجتمع كله والتحكم فيه وفق أجندة انتخابية وانتهازية دون مراعاة للانعكاسات الخطيرة التي خلفها ذلك التمكين والتدخل السافر في خصوصيات المجتمع التقليدي دون دافع من وعي أو بصيرة أو حتى رقي وتقدم. لقد أدت تلك الاختيارات التعسفية إلى انعزال الكثير من شرفاء المنطقة وانحسار أداورهم التنويرية والتوجيهية وأضحت الأرض سائبة يعيث فيها فسادا كل من "هب ودب" وسادت قيم المادية المتوحشة وتراجعت في المقابل قيم الفضيلة والصدق والتكافل والتراحم والإخلاص.
وقد عانى السكان المحليون من بطش الحكام والولاة حتى إن أحد الشيوخ قال ذات مرة (إن الحكام الفرنسيين الذين عاصرتهم أرحم فينا وعلينا من حكام الدولة الحالية) وأبسط مثال على ذلك هو أن جميع حكام تلك المنطقة وولاتها قد غنموا قطعانا من الإبل والبقر والمعز من غرامات يفرضونها خارج القانون على السكان، نتيجة الخوف من بطش السلطات وجهل الناس بحقوقها. تلك هي الأوضاع التي آلت إليها المنطقة بعد تنفيذ سياسيات الأنظمة العسكرية المتخلفة والتي لا تنظر للمنطقة إلا من زاوية الإنتهازية السياسية ومحاباة كل يطوع الخزان الإنتخابي لجولات الرؤساء وصولاتهم .
من هنا تنبع أهمية الحراك الجاري في مدينة النعمة ومبرراته الإستيراتيجية والتي تعد ضرورية لإحداث التغير المطلوب في العقليات والمشاركة الواعية في الحياة السياسية الوطنية والتوجيه الصحيح للإختيارات الإنتخابية والإشراك الكامل لشباب المنطقة المتعلم والمتخندق حاليا خلف أقبية الساسة المحلين المتمصلحين الذين سخروا المنطقة لتحقيق المكاسب الشخصية وتفننوا في أساليب دعم الطامعين في أصوات السكان وفي حشدهم وتوريطهم في سياسات "الخزان".
إن شباب المنطقة مدعو لرفع التحدي وتطوير الحراك الجاري نحو منع التلاعب بأصوات الناخبين وفرض اختيارات راشدة ونابعة من إجماع المثقفين والحوار الهادف إلى استعادة اللحمة والنهوض بمطالب المنطقة من صحة وتعليم وتنمية ومشاركة حقيقة في صناعة القرار الوطني وعدم الإرتهان للزعامات الإنقلابية وأتباعها وأشخاصها المتورطين في صنع الأوضاع السابقة. إن هذا الحراك يجب أن يكون وسيلة للتغيير والتوحد والحوار بين جميع أبناء المنطقة من أجل حماية المنطقة من كل الطامعين والمتمصلحين من بطانة قادة الإنقلابات الموالين لكل الرؤساء علي امتداد سلاسل الإنقلابات حتى وصمت المنطقة كلها بأنها خزان لكل انقلابي (مهما كان).