السيد الرئيس، ظلت ولاية القضاء في التاريخ الإسلامي مثارا للكثير من الترهيب والتخويف وقد قيل فيها بأن "من ولي القضاء فكأنما ذبح بغير سكين " " قاض في الجنة وقاضيان في النار " ...., لهذا تهيب العلماء في ماضي الأمة خوض هذا الإمتحان العسير ، وكانت ضمانات الإستقلالية التامة .. وإثراء القاضي .. وحمايته في أمنه ومن كل أشكال الضغوط والتأثير..وإنفاذ أحكامه ..أهم الشروط لتوفير مناخ مناسب يخفف من خطورة التصدي لهذه المهنة .., ويجعل اجتياز بابها الى الداخل مقبولا بل مرغوبا ..لما جاء في الآثار من أجر جزيل للقاضي العادل .., ولا يمكن للعدل أن تتفتق أزهاره ..ولا أن تورق أشجاره ..إذا لم تبذر تلك الضمانات .. وتتعهد الدولة بريها وحمايتها ..,
السيد رئيس المجلس الأعلى للقضاء، لقد انتسبت لهذه المهنة وشجعني ما حواه إعلان عهدك ..تابعت خرجاتك الأولى .. وراعتني تلك السطحية وذلك الطرح العامي .. حسبتك لا تزال على الفطرة وأنك صادق فيما تقول ..وأن شمسا تتجلى وتشرق بالأمل .. , ظننت أن الخطاب الخشبي ..والدعاية الكاذبة.. واستغفال المواطن .. كوارث انتهت مع ضجيج الزمن الغابر .. واختفت وراء نقع فساده ودجله .. وأن التاريخ يشهد مخاض صفحة جديدة ..ويتهيأ ماء اللجين لكتابة البناء والأمجاد لموريتانيا.., توهمت أن الوعي بمتطلبات الحاضر ..واستحضار دروس الماضي .. ستحجب الى الأبد أنماط التبعية والإستخفاف بالقضاء .. وأنك ستعي بحسك العسكري مخاطر الصرخات التي تتقاذفها الزوابع في ربوع المنطقة من مكان الى آخر ..مزلزة أسرة الحكام .. , وأنك ستفك القيد عن القاضي ...وتحرره من أغلال الحاجة والتبعية والخوف .. وستجعل من سلطته عربة أمامية تقود مختلف قطاعات الدولة نحو شواطئ الإستقرار والإعمار .. فالعدل أساس الملك .. , أحلام وأماني كانت تتراقص في مخيلتي .. ومستقبل وردي كنت أرقب ظهوره في ثتايا تلك السذاجة والنظرات الخجولة .. والبراءة التي تدثرت بها أول يوم .
السيد الرئيس، سمعت في حكايات الزملاء عن ماضي المهنة .. وما كان يشي به من سواد حالك .. ولسان حالهم اليوم يهجي ويردد رحم الله الحجاج ما أعدله ..فالجوع يحصدهم .. والتشريد يعمهم ..والخوف من المتقاضي يتملكهم .. وسيف التبعية مصلت على رقابهم .. , ليل سجى وأسدل رداء الذل والقهر على عظمة القضاء.. , الحكم يصاغ في مطابخ الأمن ويسلم في ظرف مغلق للقاضي .. , على منصة القضاء سقطت جثث طاهرة .. وفي سجونه تقبع أرواح نقية .. وفي ملفاته أسماء عطرة في سمع الموريتانيين تنتظرإحباك المؤامرة .. , حسابات المصالح والمطالح.. ورهانات السياسة والإقتصاد .. ومخططات الوأد لكل شعلة تضيئ .. وإختطاف الشعارات المضللة .. أموال تصادر وتنهب .. وأعراض تنتهك .. وأرحام تمزق أوصالها ..,
إن إرهاب القاضي والإمعان المنظم في إخضاعه سيحوله من حام للعدل الى معول لهدمه . . . , دائرة الخيارات بدأت تضيق في عهدك .. كانت سنة الأولين تحويل القاضي الى الحر وأرض الباعوض والعطش والظلام إذا كانت فيه بقية أخلاق وشيئ من التقوى .. وإبعاده عن حياة المدن والشواطئ ..., وجاءت عبقريتك بعقوبة أمضى وأنكى .. الفصل من القطاع لكل قاض لم يحكم بهوى الحاكم المضمر بين جوانحه ..وتمسك بالعدل وبالجرأة المحمودة .., كل محكمة لم تقرأ على منصة الحكم النص الوارد بنقاطه وفواصله من الأمن والحزب والأجهزة التابعة ستسأل عن جريمة بلا عنوان ولا أركان .. , عسكرة القضاء تتعزز وتنمو عضلاتها .. وزير لا يفهم استقلالية السلطة ولا يقدر معنى الفصل بين السلطات .. , عروش عليا في العدل يتبوأها عسكريون بالطبع والثقافة والولاء .. ظروف مادية في منتهى الصعوبة .. وأوضاع معنوية هابطة الى الحضيض .. سلطة تتحول الى كتيبة .. وقضاة يسعى الحاكم الى مسخهم جنودا مأمورين .
السيد الرئيس لبست بذلة القضاء أول مرة وأنا آمل الإسهام في توزيع العدل .. وأحلم بالإستقلالية التامة التي تتشكل من مفردات متنوعة من المؤيدات المادية والمعنوية .. , مشروع ظل الطموح يحدوني الى بنائه .., لهذا وعملا بوحي الضمير الحر .. وإملاءات الذات الواعية ...فإنني أعترف بالإنهزام .. وأودع بكل أسف البذلة التي عشقت عنقها وأطرافها البيضاء ..وأقرر الإستقالة من الكتيبة القضائية .
بقلم البدوي أقلام حرة