مؤمن أنا بالقدر خيره وشره ...مؤمن أنا بان لامصيبة أعظم من مصيبة وفاته صلى الله عيه وسلم ... مؤمن أنا بان الموت حق و أن النار حق وان الجنة حق ... مؤمن أنا بان كل نفس ذائقة الموت وان كل من عليها فان ...!!
لكنني مع ذلك لم أتمالك نفسي و أنا أعود صباح الأحد إلى مبنى التلفزة الوطنية لأتلقى الخبر الصاعق من احدهم وهو يقدم لي العزاء ويقول "عظم الله أجرك" ... قلت له -في دعابة - في من يا طارق الشؤم مع باكرة النهار ...قال لي في زميلنا عبدالله محمود با.
لم استوعب الخبر لأول وهلة بل قل إنني لم اصدق هذه المزحة الثقيلة الكئيبة من احد الزملاء الذين اعتادوا ان يشاطروني او يتبادلوا معي بعض الفكاهة او الدعابة في بعض الأحيان . قلت لصا حبي : اتق الله نحن في رمضان بل في العشر الثانية منه وهي عشر المغفرة بعد أن مضت الأولى التي هي عشر الرحمة ونحن في الطريق إنشاء الله نحو عشر العتق من النار. قال لي : والله لا أحدثك كذبا بل الصدق والصدق أقول .
أحسست أن الأمر جدي ..وبدأت اشعر بحشرجة في نفسي و ثقل في قدماي و شعرت بدوار وشبه دوخة وكأن رصاصة طائشة استقرت في أحشائي .
اخذ بعض الظلام يتسلل خلسة إلى بصري و بدأت معه البحث عن اقرب جدار لاستند عليه ؟؟ تنبه زميلي إلى الأمر فأخذ يشد من عضدي و يواسيني و يقول : أنت مؤمن و والموت حق وهذا قدر الجميع .
نعم انه قدر الجميع،ثم نعم إنني مؤمن ..لكن الأمر بالنسبة لي جلل و الفقيد امة وليس زميل او رفيق او شخص تعرفت عليه داخل غرفة الأخبار التلفزة الموريتانية . انه عبدالله محمود با... الذي كنت معه الليلة البارحة بل قل كنت معه في الساعة الأولى من فجر اليوم أي الساعة الواحدة من صبيحة الأحد كآخر الزملاء اللذين يعملون في التلفزة ممن يلتقيهم قبل مغادرته الساعة الواحدة و النصف الى منزله في البصرة.
لقد كنت معه قبل نشرة الأخبار الأخيرة ، تبادلنا كالعادة أطراف الحديث بروحه الطيبة و فكاهته المألوفة وعباراته الودودة و بسمته التي لاتفارق محياه البشوش .
كان معي وكنت معه حين وصل الى مبني التلفزة لتقديم نشرة الأخبار الأخيرة ، وتشاء الأقدار ان تكون الأخيرة لهذه المعلمة الإعلامية الشامخة والطود العلمي السامق في عالمنا السرابي هذا.
قال لي و جبينه يتصبب عرقا بعد ان اضطر للسير من عيادة ابن سيناء بجوار شارع انواذيبو بتفرغ زينة حتى مبنى التلفزة على قدميه بعد ان لم يفلح- بسبب المسيرات التي عجت بها شوارع العاصمة انواكشوط على اثر فوز المنتخب الوطني لكرة القدم على نظيره السينغالي - لم يفلح في الوصول بسيارته الى مبنى التلفزة ، قال لي : اليوم يوم القيامة في انواكشوط .. لقد اضطررت للسير على الإقدام بعد ان سدت في وجهي كل المنافذ المؤدية الى التلفزة ولكي لا أتأخر عن موعد النشرة الأخيرة .. المهم أنني وصلت في الوقت المناسب والأهم من ذلك كله يا زميلي العزيز هو ان منتخبنا الوطني وصل أيضا إلى تحقيق حلمه الذي طالما انتظره الجميع .
ضحكنا و دردشنا خفيفا على عجل وأنا اكتب له خبر فوز المنتخب الوطني على جهاز الكمبيوتر بغرفة التحرير بحضور زميل لنا آخر هو مدير قطاع الأخبار الذي كان منشغلا حينها بتأمين كتابة النشرة على القارئ الالكتروني "برومتير" و إعدادها كاملة بأخبارها المستحدثة للزميل الفقيد عبد محمود با وذلك قبل موعد النشرة بأقل من أربع دقائق.
كانت تلك هي اللحظات الأخيرة لنا مع العميد الفقيد وكانت هي لحظاته الأخيرة مع التلفزة الوطنية التي أعطاها ما يزيد على الأربعين سنة من الخدمة والعطاء ضمن مسيرة إعلامية لرجل تشعر انك هو و انك تعرفه منذ الولادة لقربه من الجميع و لحبه الخير للجميع. كان في تلك الليلة - الليلة الأخيرة له في عالمنا الفاني - شعلة من النور والحيوية وحتى أنني قد لفت انتباهي وأنا أسير خلفه إلى أستوديو الأخبار انه يسير بشكل مستقيم رغم انه كانت به حدبة في الظهر خفيفة وكان في نفسي أن أداعبه وأقول له لقد أعادتك هذه الخطوات التي خطوتها من شارع انواذيبو إلى التلفزة الليلة شابا يافعا مكتمل الفتوة ،لكن لم يسعفني تعجله وضيق الوقت لمداعبته وممازحته بهذه الكلمات.
لم يدر في خلدي أبدا ان هذه اللحظات هي الأخيرة التي سأتبادل فيها أطراف الحديث مع العميد " عبدالله " ، و لم يدر في بالي انها اللحظات الأخيرة التي سأشاهد فيها تلك الطلة البهية و القامة الفارعة و الحضور المحبوب .
لم يدر في مخيلتي انها اللحظات الأخيرة التي سيتناهى فيها الى مسامعي ذاك الصوت الشجي الذي حين تسمعه يخيل إليك انك تستمع الى مزمار من مزامير داوود .. الصوت الندي الذي تعرفت عليه وأنا في مقتبل العمر يافعا لما تقلم أظافري بعد و كبرت عليه والفته وشاءت الأقدار ومحاسن الصدف ان أكون زميلا لصاحبه ورفيقا له في معترك مهنة المتاعب. لقد كان "العميد" الفقيد مدرسة إعلامية وفقهية و علمية و أخلاقية متحركة .. ورصيد كبير من التجربة والخبرة والتواضع .
كنا نلجئ إليه حين تعجزنا قواعد النحو و توهنا العبارات المناسبة لتقرير ما أو تصوير حالة ما فنجد عند عبد الله ببديهته السريعة وحضوره الذهني المتقد الإجابة الشافية الجامعة المانعة. عرفته عن كثب بحكم ارتباطنا في أكثر من نشرة وتواجدي معه في الأيام التي يقدم فيها النشرة الرئيسة،كان بشوشا و عطوفا ومواظبا على الصلاة حتى إذا لم يكن يفصله الا الوقت اليسير عن تقديم النشرة وقرب و قت الصلاة صلي داخل الاستديو مع حبه و حرصه على الصلاة في مسجد التلفزيون حين يكون متواجدا لأداء عمله هناك .
كان مثالا لكل المثل والقيم النبيلة والكريمة والفاضلة، لم تأخذه شحناء يوما مع احد زملائه رغم أن ضغوط العمل الإعلامي و التلفزي منها على وجه الخصوص، كبيرة وكثيرة.
كان مواظبا على أداء المهام والعمل الذي يسند إليه بجد وإتقان و كان يتجنب المشاركة في الأحاديث التي تكون فيها غيبة او التزلف او شتيمة او خوض في أعراض الناس.
كان يتصل بي في بعض الأحيان حين يأخذ إجازته بمسقط رأسه في "جول" يتبادل معي أطراف الحديث و يمازحني بدعاباته التي يجتنب فيها فاحش الكلام ولغو الحديث ، ويقول لي دائما أن علي ان أتحلى بالصبر والجلدة حين اشكوا له بعض الغبن او بعض النوائب أو مصاعب المهنة".
كنت أشاهد فيه و أتلمس و أتبين زهده في الدنيا وزهده فيما عند الناس وعدم رغبته في التقرب من المسئولين و الاكتفاء بالنزر القليل الذي يجنيه من كده وعمله .
لقد وافاه الأجل المحتوم و هو صائم بعد أدائه لصلاة الفجر في اليوم الثاني عشر من أيام رمضان المبارك .
فهنيئا له لأنه يلقى الله وهو صائم ...و هنيئا له لأنه يلقى ربه وهو حافظ لكتابه العزيز عامل حسب -علمي ومشاهدتي له- بحدوده قبل حروفه.
لا اعرف ولا اعلم في الرجل" الأمة "خريج أسرة العلم الفاضلة و ابن العالم الجليل مؤسس مدارس الفلاح الإسلامية "الحاج محمود با" إلا كل خير و بر وإحسان وعلم و تواضع و حسن خلق .
فالي جنات الخلد أيها الزميل القريب من القلب ... و الرفيق والأخ الفاضل والمعلم والغدوة الحسنة.
وليستقر جسدك الطيب المعمد بالمسك في رياحين الجنة" مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا".
اللهم نور مرقده وعطر مشهده و طيب مضجعه و آنس وحشته ونفس كربته وأعذه من عذاب القبر وفتنته.
اللهم إني أسألك أن تفتح له بابا تهب منه نسائم الجنة لا يسد أبدا وان تلهم ذويه الصبر و السلوان وإنا الله وإنا إليه راجعون .