تعاني الحياة السياسية في موريتانيا من تأزم كبير، واحتقان متصاعد، بل إن الساحة السياسية عندنا لم تعرف استقرارا يذكر منذ بداية المسلسل الديمقراطي في مطلع التسعينيات في عهد ولد الطايع، فمنذ ذلك الوقت، والساحة السياسية تدور بين حالتين:إما دكتاتورية مطلقة،
واعتقال للمعارضين، أو لجوؤهم إلى الخارج، وإما ترك الحرية لهم للعمل في الوطن، وهو ما لم يكن حلا ناجعا، حيث يصبح الصدام، والاحتقان، والخلاف العميق هو السمة البارزة لمشهدنا السياسي – كما هو الوضع حاليا-.
فما المشكلة إذا؟؟ إذا أعطيت الحرية حصل الاحتقان، والصدام، وإذا وقع القمع، وصودرت الحريات لم يحصل الاستقرار!! إذا تقرر إجراء الانتخابات وقع الخلاف حول المشاركة فيها، وإذا تقرر تأجيلها تحصل ضجة كبيرة، إذا فتح حوار شامل كان سببا للخلاف، بين مشارك فيه، ومقاطع له ، غير معترف بنتائجه، جربنا الانتخابات التي قيل إنها نزيهة، وانتخبنا أول رئيس مدني فلم تنته مشاكلنا السياسية، بل زادت تعقيدا، وجربنا الانقلابات(البيضاء منها، والحمراء) فلم تقدم لنا حلولا أيضا.
لذلك فإن الوضع السياسي الحالي يشهد نوعا من الاحتقان الخطير، والصدام المباشر، وتمسك كل ذي رأي برأيه، وادعاء كل طرف أنما يجعله يتمسك بموقفه، ورأيه هو الحرص على المصلحة العليا للوطن، فمنسقية المعارضة تقول إن إجراء أي انتخابات في هذه الظروف يهدد مستقبل الوطن، وتلمح إلى عواقب مخيفة، والنظام الحالي يقول إنه استكمل استعداداته لهذه الانتخابات، وأنها ستحل الإشكال السياسي، والدستوري القائم، ورئيس الجمعية الوطنية مسعود ولد بلخير يقول إن مبادرته تمثل الحل العملي الوحيد للأزمة السياسية القائمة، ويحذر من يرفضها بأنه سيكون مسؤولا عن ضياع الوطن.
وانأ شخصيا أخاف أن يصدق على هؤلاء جميعا قول الشاعر:
وكل يدعي وصلا بليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا
الكل يدعي حب الوطن، والتضحية في سبيله، ويرى أنه يملك الحقيقة المطلقة بخصوص تسييره، والوطن يوشك أن يضيع على الجميع، أما هل المواطنون راضون حقا، ومقتنعون تماما بطرح هذا الطرف السياسي أو ذاك؟؟ فذك سؤال تصعب الإجابة عنه.
إنه من الملاحظ أن السلطة عندنا لها مذاق خاص، ونكهة لا تقاوم، فمن يصل إليها يدافع باستماتة الأبطال للبقاء فيها أطول فترة ممكن، بل قد لا يخرج منها إلا مكرها كما أن من هم خارج السلطة مسكونون بحب الوصول إليها، معتبرين ذلك حلما طالما راودهم، وغاية، تبرر أي وسيلة للوصول إليها، ولعل هذا هو لب الخلاف السياسي، وجوهره، لذلك فإنه بناء على ما سبق، وانطلاقا منه، فإنني أقترح على الأطراف السياسية المتصارعة المبادرة التالية التي أنا متأكد أنها ستحل الأزمة السياسية القائمة، لكنني أيضا على يقين أنها سترفض من قبل الجميع، المبادرة هي:
أن يعلن رئيس الجمهورية محمد ولد عبد العزيز، ورؤساء الأحزاب الكبيرة، خصوصا السيد: أحمد ولد داداه، ومسعود ولد بلخير، ومحمد ولد مولود، وصالح ولد حنن، وبيجل ولد هميد، وجميل ولد منصور، ويحي ولد محمد الواقف، أن تعلن هذه الشخصيات في وثيقة مكتوبة عدم ترشحها لأي منصب انتخابي، سواء منصب رئيس الجمهورية، أو عضو في البرلمان، على أن يكون من حق كل حزب من هذه الأحزاب أن يرشح أحد أعضائه الآخرين ويدعمه.
أعتقد أنهم لو قبلوا ذلك سينتهي الإشكال، لكنهم بالتأكيد سيرفضون، لأنهم يعتقدون أن النساء الموريتانيات لم ينجبن من يصلح لقيادة البلد إلا هم فقط، ويرون أنهم إن غابوا عن المشهد ستنهار الدولة، ويضيع الوطن، رغم أن بعضهم في المشهد منذ استقلال موريتانيا، ولم يقدم حلولا، ولم يضف جديدا.
هو إذا حب السلطة الأعمى، والسعي الحثيث للوصول إليها، والاستماتة في الدفاع عنها، قد يقول قائل إن من حق هذه الشخصيات أن تترشح لأي استحقاق باعتبارهم مواطنين، هذا صحيح، ولكن نقول لهم:إن الوطنية الحقيقية تفرض على الشخص أن يتنازل عن حقه المشروع، بل ويضحي بنفسه أحيانا إن كان في ذلك مصلحة عامة لوطنه، أنا شخصيا أظن أنه إذا لم تطبق هذه المبادرة لن نصل إلى حل يرضي جميع الأطراف، وذلك لسبب بسيط هو:أن منصب رئيس الجمهورية غير قابل للقسمة، فسيشغله شخص واحد فقط، وقد جربنا بعد انتخابات 2007 نموذجا يقضي بتشكيل مؤسسة للمعارضة الديمقراطية - رغم أن هذا المصطلح لا يوجد إلا في موريتانيا - وكان لهذه المؤسسة رئيسها، وميزانيتها، ونفوذها، في محاولة لإشراك المعارضة في "كعكة" السلطة، لكن هذا النموذج فشل فشلا ذريعا مما جعلني لا أرى حلا إلا في هذه المبادرة، التي ستحل الأزمة السياسية الراهنة، وستضخ دماء، ووجوها سياسية جديدة تتصدر المشهد، بعد وجوه ترفض أن تتقاعد، أو تستسلم لعوامل الطبيعة، والزمن، في مقاومة يائسة لسنة الكون.