الحدث مفاجىء وغير مسبوق في تونس: رئيس أركان الجيوش الثلاثة الجنرال رشيد عمار يفجر قنبلة بإعلانه أمس الأول على الهواء مباشرة في لقاء مع قناة ‘التونسية’ الخاصة أنه طلب من رئيس الجمهورية إعفاءه من منصبه وأنه طلب تقاعده الذي كان يفترض أن يحال إليه منذ 2006.
هذا الرجل القليل الظهور والقليل الكلام والذي وصف بأنه الرجل الذي قال لا لبن علي عندما طلب منه إطلاق النار على المتظاهرين المحتجين، بدا في هذا الظهور التلفزيوني النادر الذي استمر لأكثر من ثلاث ساعات وكأنه يريد أن يلقي بحمل كبير أثقل ظهره. قال كلاما كثيرا، تناقله الإعلام التونسي بكثافة لافتة وبتعليقات شتى في مواقع التواصل الاجتماعي، من بينه أنه عرضت عليه الرئاسة بعد مغادرة بن علي البلاد في 14 يناير 2011 لكنه رفض، مضيفا بأن لديه المزيد مما يمكن أن يبوح به بعد أن يخلع بزته العسكرية ومعترفا بأنه بات شخصا ‘مزعجا’ لأكثر من طرف. إعتبر أن صلاحية السلطة القائمة حاليا في البلاد انتهت بعد اغتيال المعارض اليساري شكري بلعيد في شباط/فبراير الماضي.
تحدث عمار طويلا عن خطر الإرهاب في البلاد وأحداث جبل الشعانبي الأخيرة واعتبر أن هناك أزمة معلومات بالنسبة إلى الدولة التي لم تعد أجهزتها الإستخباراتية، سواء المدنية أو العسكرية، تعمل بالكفاءة المعتادة حين كانت قبضة السلطة قوية وأجهزتها صارمة. الأخطر أن الرجل، المعروف بتحفظه وانضباطه العسكريين بعد كل هذه السنوات من العطاء في المؤسسة العسكرية، بدا متعبا من كل ما يجري في تونس التي وصفها بأنها باتت ‘ساخنة’ لا تحفظها سوى بركات الأولوياء الصالحين، وهو كلام قال أحد المعلقين بأنه جعل النوم يهرب من عيون التونسيين تلك الليلة.
استقالة عمار أو تخليه عن مهامه أو طلب إعفائه أو تقاعده، لا تهم التسمية، لن يؤدي في النهاية سوى إلى زيادة منسوب القلق والحيرة عند التونسيين، فالجيش هو القلعة الأخيرة التي ظلت متماسكة وموحدة في البلاد. تشظت الطبقة السياسية بأغلبيتها ومعارضتها واهتزت المؤسسة الأمنية وهيبتها بالحق والباطل وتراجع أداء المواطنين في مواقع العمل المختلفة الحكومية منها والخاصة ومعه تراجع تدريجيا عطاء الإدارة وإنتاج البلاد وتصنيفها الإئتماني لدى المؤسسات المالية العالمية. وحده الجيش ظل يوحي للتونسيين بأن لديهم دولة لم تتفتت ورمزا وطنيا لم يتعرض، رغم الغمز واللمز العابرين ، إلى حملة ممنهجة لتدمير أسسه الجمهورية التي أرساها الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة الذي رباه منذ البداية على الولاء للدولة وقصر الاهتمام على صون سيادة البلاد وترك السياسة لأهلها.
عندما يأتي قائد الجيوش الثلاثة والرجل الأقوى في هذه المؤسسة ليختار وسيلة إعلام يتحدث من خلالها إلى الناس و’يفضفض’ لهم عن بعض مما يختلج في نفسه… وعندما يأتي من قبله وزير الدفاع قبل بضعة أشهر ليعلن هو الآخر على التلفزيون أنه لا يريد الاستمرار في منصبه فالأمرمقلق للغاية بالتأكيد. منذ سنتين ونصف والجيش التونسي في حالة طوارئ، تجدد كل مرة، يرابض خارج ثكناته بإمكانات لوجستية محدودة ويقوم بدور لم يجبر عليه إلا لأيام معدودات عام 1978 و1984 ما أنهكه وأربك سير تدريباته العادية. زد على ذلك أن دخوله في مواجهات مع جماعات دينية متشددة أو إرهابية وسقوط شهداء له جراء ذلك لا يمكن أن يجعله سوى أكثر هشاشة. وعندما يلتفت العسكريون في تونس فلا يرون حولهم سوى نخب سياسية متهالكة ورثة في أغلبها، مع مجلس تأسيسي يثير الأعصاب بأدائه الهزيل وتخلفه عن أغلب المهام التي انتخبه الناس من أجلها، مع ضبابية تكتنف خارطة الطريق المقبلة من دستور وانتخابات عامة وغيرها. عندما نرى كل ذلك، يخشى أن تصيب بشظاياها أكثر من جهة. فهل أنتم منتهون؟!