أصدر الفنان التشكيلي والناقد المغربي إبراهيم الحيْسن كتابا جديدا يحمل عنوان ‘المرأة في الأمثال الحسانية’، وهو حلقة جديدة من الحلقات التي خصصها المؤلف لثقافة الصحراء المغربية، انطلاقا من موقع المعايشة والانتماء والبحث، فتوالت إصداراته التي أثرت المكتبة التراثية بالجديد والمفيد: ‘إثنوغرافيا الكلام/ الشفاهية ومأثورات القول الحسَّاني’، ‘الثقافة والهوية بالصحراء’، ‘ثقافة الصحراء، الحياة وطقوس العبور’. يقع كتاب ‘المرأة في الأمثال الشعبية الحسَّانية’ في 199 صفحة من القطع المتوسط، وصدر ضمن منشورات مركز الدراسات والأبحاث الحسَّانية. وفيه تحضر المرأة في الأمثال الشعبية ومأثورات القول الحسَّاني كصورة وكخطاب يرسمان ملامح ما يَتَرَسَّبُ في المتخيَّل الشعبي من تمثيلات وأحكام جاهزة وتعميمات تحفل بها الحياة اليومية في الصحراء. ويضمُّ الكتاب -الذي كتبت مقدمته الباحثة الموريتانية الدكتورة امباركة بنت البراء- مدوَّنة لمجموعة من الأمثال والحِكم الشعبية والأقوال السائرة – مُبَوَّبَة موضوعاتياً- تدعو إلى القِوامة وتفوُّق الذكورة، إلى جانب أخرى تُدافع عن المرأة وتُبرز قيمتها ودورها الوظيفي داخل المجتمع. فضلاً عن ذلك، يحتوي الكتاب على أمثال شعبية تُحَذِّرُ من مكائد النساء. لقد ظلَّت علاقة هذا الباحث بالصحراء ـ كما ورد في تقديم الكتاب ـ علاقة تواصل وانتماء، تمتد عبر الزمان والمكان، تحقيقاً للذات وتأصيلاً للهوية، إنه يسعى عبر بحثه الدؤوب إلى الكشف عن تجلِّيات هذه الذات متتبِّعاً مساراتها عبر فضائها المفتوح، وراسماً في كل مرة مَلْمَحاً من ملامحها، ومحدِّداً بُعداً من أبعاد صورتها. وتشكل إصداراته الغنية عن هذا الفضاء الصحراوي، لُبَّ هذه العلاقة الموسومة بالانسجام والعطاء؛ والتي يتنزَّل في إطارها الكتاب الجديد المعنون بـ’المرأة في الأمثال الحسَّانية’ (الحسانية: الاسم الذي يطلق على ثقافة الصحراء ولغتها). يكتسب هذا العنوان ـ حسب صاحبة التقديم ـ وجاهته من ناحيتين، أولاهما: سعة مدوَّنة الأمثال الحسَّانية والتباسها باليومي والمعيش؛ فاختيار الباحث هذا اللون السردي المكثف الذي هو مكوِّن من مكوِّنات الهوية الصحراوية، يختزن الكثير من مبادئها الأخلاقية وقيمها الإنسانية وأنماطها السلوكية، يكشف عن نيَّة مبيَّتة في استجلاء صورة المرأة الصحراوية في أغنى وأوسع مدوَّنة. أما الناحية الثانية، فتتجلى في وعي المؤلف بما للمرأة ‘البيضانية’ الصحراوية من حضور جعلها تأخذ مساحة معلومة في التقاليد المروية خاصة الأمثال الشعبية، ذلك أن خصوصية المرأة الصحراوية – والتي تشكل استثناءً بالمقارنة مع مثيلتها في العالم الإسلامي-، تجعل منها موضوعاً ذا بالٍ يستحق التوقُّف والدَّرس. فللمرأة ‘البيضانية’ مكانة رسَّختها الأعراف والتقاليد، ودعَّمتها الأدبيات المكتوبة والمروية؛ وتحدَّث عنها غيرُ واحد؛ يقول الشيخ محمد المامي (توفي سنة 1282هـ) متحدِّثاً عمَّا تحظى به المرأة الصحراوية من تقدير واحترام: ‘والنساء عند عامة أهل القطر كأنهن لم يخلقن إلا للتَّبجيل والإكرام، والتودُّد لهن، فلا تكليف عليهن ولا تعنيف، فالمرأة هي سيدة جميع ما يتعلَّق بالبيت من متاع وماشية، والرجل بمثابة الضيف’. ويؤكد هذه المكانة المتميزة للمرأة الصحراوية ما يورده الرحالة ابن بطوطة من أن النساء في بعض أقاليم الصحراء أعظم شأناً من الرجال. إن المرأة في عالم الصحراء تُعْلِنُ حضورها الاجتماعي من خلال اضطلاعها بمهام تنموية وثيق الصِّلة بحياة الإنسان، كما تمارس تأثيرها المعنوي من خلال مظهرها الجمالي، والذي ظل مصدر إلهام يستمد منه الفنان لحظاته الإبداعية الخالدة. ويأتي الحديث عن المرأة من خلال الأمثال الشعبية سعياً إلى استجلاء صورتها في إطار أشمل، فالمثل باكتنازه وزخمه، بذيوعه وتداوله يختزن الكثير من المبادئ الأخلاقية والقيم الإنسانية والأنماط السلوكية للمجتمع، وبذا يكون اللون الأدبي الأمثل لتقديم تصوُّرٍ متكاملٍ عن المرأة في الذاكرة الجمعية. ورغم السمة الإنشائية للموضوع، فقد اتَّسم منهج الكاتب بالأسلوب العلمي الصارم، وبالموضوعية في الطرح. هكذا سعى في كل فصل من فصول كتابه إلى التأصيل للمصطلحات التي يوردها، وإلى تحديد دلالاتها ومراميها في اللغات الحيَّة، كما لم يفته تأييد آرائه حول بعض المظاهر الاجتماعية بشواهد من لَغْنَ الحسَّاني أو الشعر الفصيح، وهو ما يعتد به في الثقافة البدوية القائمة على المشافهة. كذلك يظهر الجهد الواضح الذي بذله الباحث في جمع المادة، من كل المصادر والمراجع ذات الصِّلة بالموضوع قديمة أو حديثة، عربية أو أجنبية، وأرى جازمة أنه لم يند عنه منها الكثير. وهو في طرحه وقراءته لمدوَّنة الدرس لم يتعصَّب لرأي ولم يغفل حقيقة، فحديثه المستفيض عن مكانة المرأة داخل المجتمع الحسَّاني وتأكيده على خصوصيتها؛ لم تحجب عنه سيطرة الثقافة الذكورية وهيمنتها، وما كانت تنضح به أحياناً من تحامل على المرأة، وهي فكرة أكد عليها مراراً، وأيَّدتها بعض الأبواب؛ عن المواصفات المذمومة في النساء، وعن تجنُّب مكائدهن وشرِّهن. إن طبيعة الموضوع الطريفة، وطريقة تناوله الشيِّقة، تجعل القارئ لا يترك الكتاب حتى يستوفيه، فقد قدَّم الباحث مادة علمية غنية؛ تبرز تمكُّنه من إعطاءِ وصفٍ دقيقٍ لنمط العيش بالصحراء، وتظهر اطلاعه الواسع على حياة أهلها بكل حيثياتها وملابساتها، وكذلك معرفته المكينة بثقافتها وصنائعها.
وتقول الدكتورة امباركة بنت البراء أيضا: لقد مكَّنتنا هذه القراءة في الأمثال الشعبية الحسَّانية من التعرُّف بوضوح على الحيِّز الذي شغلته المرأة في عالم الصحراء؛ وما عرف لها من تقاليد وعادات، وما أحاط بها من تحديات. هكذا عرفنا مكانتها داخل المجتمع الصحراوي، وشهدناها أُمّاً وزوجةً، وبنتاً وجدةً، وتابعنا مراحلها العمرية وما يميز طقوسها الاحتفالية، ثم رأينا موقفها من الآخر وموقفه منها.
إن هذا الكتاب، من وجهة نظر الباحثة الموريتانية، لا يقف عند حدود التعريف بالمرأة وملابسات حياتها المحدودة، وإنَّما يتعدَّى ذلك إلى نطاق أوفى وأشمل عن المجتمع الصحراوي بقيمه الأخلاقية، ونظمه التربوية، وعاداته وتقاليده، وعقائده وأساطيره، إنه يمثل قراءة في عالم الصحراء بكل غناه وتنوُّعه. ولا غرابة في ذلك، فالأستاذ ابراهيم الحَيْسَن رجل سكنته الصحراء وألهمته، وظلَّت تحدوه دوماً إلى اكتشاف سرِّها الغامض وجمالها العصي، وما فتئ بدوره يواصل حفرياته في تراثها بحثاً وتوثيقاً وتحليلاً.
المصدر: القدس العربي