كنت من بين السواد الأعظم من الموريتانيين الذين انبهروا بخطاب إعلان ترشح محمد ولد الشيخ الغزواني، فاتح مارس 2019 وتمنيت له النجاح من اجل تحقيق تعهداته، خاصة أنه قال فى خطابه "إن للعهد عنده معنى".
وأعلنت على الملأ تأييده وهي المرة الأولى التي أساند فيها مترشحا من رحم العسكر، اعتقادا مني بأن صفاته الحميدة والكثيرة، التي يشهد له بها الجميع، ستميزه عن الرؤساء العسكريين السابقين وخضت بكل حماس وجدية حملة لنجاحه، وكنت على ثقة كبيرة، كغيري من الموريتانيين الذين ساندوه وانتخبوه رئيسا لموريتانيا، على أنه سينتشل البلاد من الهاوية التي كانت على حافتها جراء سياسات عشرية الجمر، لنظام ولد عبد العزيز الفاسد والمفسد.
وكنت أدرك تماما حجم التحديات السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية التي تنتظر الرئيس المنتخب وما تتطلب مواجهتها من حكمة ومن عمل جاد ومن امكانيات اقتصادية غير متاحة ولذلك كنت أرى، أن نجاح ولد الغزواني فى مأموريته الأولى يتجسد فى محاربته للفساد بكافة أشكاله وتطيهر أجهزة الدولة من رجالاتها العميقة، الذين أفسدوها خلال الأنظمة العسكرية المتعاقبة ويعيد للدولة هيبتها المفقودة ويجعل المواطن يثق في موريتانيا كوطن يشعر فيه بالأمن والأمان والعدالة، بغض النظر عن العرق والجهة والقبيلة، على أن يتفرغ فى مأموريته الثانية لتنفيذ تعهداته وانجاز مشاريع كبرى تنفع الناس وتمكث فى الأرض ليخلده بها التاريخ.
وكنت خلال السنوات الأربع، التي أوشكت على نهايتها من المأمورية الأولى، أراقب أداء حكومات ولد الغزواني وأستمع إلى ما يقال عنها وعن إنجازاتها، سلبا أو إيجابا، وإن كان الجانب السلبي هو الغالب، يحدوني دائما الأمل فى أن الرجل سيتخذ فى الوقت المناسب قرارات مهمة تعيد للموريتانيين ثقتهم فيه والتي على أساسها هللوا لترشحه وانتخبوه.
وكنت فى كل مرة يزداد فيها وضع البلاد سوءا، أتطلع إلى أن تكون أولى قرارات ولد الغزواني، هي اعتماده على فريق حكومي مشهود لأفراده بالكفاءة وبالنزاهة والوطنية والإخلاص له شخصيا، لا بالولاء لرؤساء سابقين ولا لوبيات رجال الأعمال والسياسة ولا لعرق ولا لجهة ولا لقبيلة وكانت تطلعاتي فى غالب الأحيان، تخيب فى كل التعيينات التي تتخذ سواء بمراسيم رئاسية أوفى مجلس الوزراء أو ما وراء الكواليس، وما أكثرها، حيث ظلت السمة الغالبة لهذه التعيينات هي تدوير المفسدين وتعيينات، على أسس غير موضوعية ولا تخدم المصالح العامة، لمن ليست لهم كفاءات ولا تجارب. واليوم وبعد انقضاء أربعة اخماس مأمورية ولد الغزواني، تقريبا، ما هي حصيلة هذه الفترة؟ وما ذا تحقق على أرض الواقع من ما ورد فى خطاب الترشح فاتح مارس 2019؟.
يجمع الموريتانيون على سلبية هذه الحصيلة، بل على أنها مأساوية، حيث ارتفعت الأسعار بأشكال مذهلة وتفاقمت البطالة فى هذه الفترة وازدادت هجرة الشباب وغاب الأمن وانتشرت حالات ترويع المواطنين وسلب ممتلكاتهم ليلا ونهارا وقتلهم فى الشوارع وفى مخافر الشرطة وغابت الدولة عن كافة مسؤولياتها، وحلت محلها القبلية بأشكالها السلبية المقيتة، فلا يوجد اليوم في مرفق رسمي من يؤدي خدمة لمواطن "إلا من رحم ربك" وتضاعف الفساد والرشوة والمحسوبية واختلاس المال العام وانتشرت الخطابات العنصرية والشرائحية وتعمقت الكراهية بين مكونات الشعب إلى درجة أصبحت تهدد السلم بشكل حقيقي واقتصرت سياسات الحكومة وبرامجها على شعارات ديماغوجية وشعبوية تطبل لانجازات غير موجودة، تتجسد فى توزيعات ضئيلة هنا وهناك لا فائدة منها وتدشينات لمشاريع وهمية تتوقف بعد حفلات تدشينها التي ينفق عليها وعلى الدعاية لها عشرات المليارات تذهب إلى جيوب المسؤولين عنها.
واقتصرت محاربة الفساد على ما يعرف اليوم ب"محاكمة رموز العشرية"، على أساس تقرير اللجنة البرلمانية، الذي برئ منه، أكثر رجالات العشرية فسادا وأسندت لهم أهم مرافق الدولة الحيوية وأهم ملفاتها السياسية المصيرية، حيث أصبح هؤلاء أقرب المقربين من ولد الغزواني ورجال ثقته.
وجاءت الانتخابات الأخيرة لتزيد الحصيلة سوءا، حيث أسفرت عن برلمان غالبية أعضائه يفتقدون إلى أبسط المؤهلات ليكونوا مشرعين لقوانين الدولة، استغلوا لدخولهم البرلمان المال السياسي والنفوذ وكافة الطرق القذرة، للترشح عن طرق أحزاب كرتونية جعلت من مناصب الترشيح سوقا سوداء، كما كما هو الحال في أصوات الناخبين بشراء بطاقات التعريف واحتجازها.
وسدت الأبوب فى هذه الأنتخابات أمام مرشحي الأحزاب التقليدية ذات التاريخ النضالي الجاد، لكي لا يدخل البرلمان المناضلين الشرفاء الأوفياء لمبادئهم وللشعب وللوطن من أمثال عبد الرحمن ولد ميني.
وشكلت اللجنة المستقلة بؤرة للفساد من قبلية وزبونية وغيهاحسب آراء الكثيرين،
حيث جاءت نتائج هذه الانتخابات محل طعن من طرف أحزاب الأغلبية قبل أحزاب المعارضة.
وكانت الحسنة الوحيدة فى حصيلة هذه الفترة هي، التهدئة السياسية التي أسس لها خطاب ولد الغزواني لإعلان ترشحه وما تلا ذلك من لقاءاته، بعد نجاحه، مع مختلف رجالات السياسة فى المعارضة، الا أن خريف هذه التهدئة قد انتهي بعد الانتخابات الاخيرة وتحول إلى صيف ساخن، زادته التهابا حوادث القتل مؤخرا فى مفوضيات دار النعيم و السبخة وفى بكه.
وقد نجم عن هذه الانتخابات وأحداث القتل، غضب المعارضة التقليدية، الناصحة أكثر منها ناطحة وبروز معارضة راديكالية تغذيها الشرائحية والعنصرية، كما يغذيها شارع يغلي بسبب سوء الأحوال المعيشية والتعليمية والصحية وغياب العدالة وانسداد أفق تغيير هذه الأوضاع بطرق سلمية.
وبالرغم من سلبية هذه الحصيلة وخيبة أمال الموريتانيين فيها، فإن غالبية المواطنين وأنا من ضمنهم، لم نفقد الأمل بعد فى قدرة رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني، على تصحيح هذه الأوضاع الخطيرة، بل نراه الأكثر قدرة على ذلك، نظرا لتمسكه بزمام السلطة ولرصيده التراكمي من التجارب فيها ونظرا لحسن أخلاقه ورزانته المشهود له بهما طيلة حياته والتي لم تؤثر عليهما كافة المناصب التي تقلدها بما فيها رئاسة الجمهورية.
كما أننا على يقين من أنه يدرك تماما واقع البلاد وتطلعات المواطنين وهو على دراية كاملة بمسبباتها والحلول الناجعة لها وذلك واضح من أول خطاب له وهو خطاب الترشح فاتح مارس 2019، إلى آخر خطاب له فى 17 مارس الماضي 2023 بمناسبة افتتاح مهرجان جول الثقافي، فقد حافظ فى جميع خطاباته على طمأنة المواطنين وملامسة مشاعرهم وحرصه على حل مشاكلهم التي كان يشخصها تشخيصا دقيقا فى خطاباته، التي كان كل واحد منها يعطي للموريتانيين جرعة أمل بعد أن كادت آمالهم تخيب، جراء واقعهم المعيش.
واليوم على ولد الغزواني أن يعي جيدا أن الوضع خطير والوقت قصير فهو فى نهاية مأموريته الأولي وعلى أعتاب مأمورية ثانية لا يفصلنا عنها من الزمن إلا عام واحد تقريبا وهو مطالب باتخاذ قرارات كبيرة وعاجلة من شأنها انتشال البلاد من السقوط فى الهاوية التي على حافتها وتعيد للمواطنين قدرا ولو يسيرا من الثقة فى المستقبل. وعلى رأس هذه القرارات:
ـ تعيين حكومته القادمة التي سيشكلها بعد تنصيب البرلمان الاسبوع القادم، من أطر تكنقراطيين مشهود لهم بالنزاهة
والوطنية بعيدين عن كل الشبهات ويتبع تشكيلها بتعين كفاءات على رأس جميع الإدارات الإقليمية والمركزية والمؤسسات الوطنية، خاصة الخدمية منها،
ـ توجيه خطاب تكليف لهذه الحكومة يعلن فيه عن نمط حكم جديد، أسسه محاربة الفساد والتسيب والصرامة وتطبيق مبدأ العقوبة والمكافأة ويوضح فيه لجميع من يتحمل المسؤولية فى النظام، أن عهد المسامحة قد انتهى وحل محله عهد المحاسبة،
ـ اتخاذ اجراءات جريئة وعاجلة لمعاقبة المفسدين فى عهد نظامه وما أكثرهم، ومتابعة ومعاقبة من سبقوه، حتى يكون ذلك عبرة للمسؤولين الجدد،
ـ وضع استراتيجية لبسط الأمن وتصحيح الاختلالات الحاصلة فى مؤسساته، التي أدت إلى نزع ثقة المواطنين منها،
ـ محاربة كافة مظاهر القبلية والجهوية والطائفية والشرائحية وخطابات الكراهية ومعاقبة كل من يمارس هذه المظاهر بكل صرامة وتجريده من وظائفه، إذا كان فى وظيفة رسمية ومنعه من حقوقه لفترة من الزمن وسجنه إذا كرر الممارسة، ـ مواصلة الحوار مع المعارضة الناصحة والناصعة وقطعه مع من يتخذ من الشرائحية أو العنصرية يافطة للمعارضة. وأخيرا أقول لرئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني إن حسن الخلق والتسامح والمرونة، سمات محمودة جدا إلا أن البعض يفسرها بأنها صفات لضعف الشخصية وعلى ذلك الاساس على من يتولى المسؤولية خاصة رئيس الجمهورية أن يفرق بين المواقف التي تتطلب الصرامة وتلك التي تتطلب المسامحة.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب".