بينما تتنامي ظاهرة الاتجار غير القانوني في منطقة الساحل الإفريقي، تصاعدت وتيرة التحذيرات الأممية من خطورة الطرق التجارية في تلك المنطقة الإفريقية الهشة التي تؤرقها الأزمات الأمنية والاقتصادية على حد سواء.
شبكة تهريب عملاقة
وسلط مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات ومكافحة الجريمة UNODC، الضوء على ظاهرة الاتجار غير القانوني في منطقة الساحل عبر سلسلة مقالات متخصصة تعد الأولى من نوعها، تستهدف مكافحة تلك الظاهرة الموغلة في القدم.
وأكد المقال الأول ضمن سلسلة المقالات المرتقبة، أن محاربة تلك الجريمة يعد ركيزة أساسية في المعركة الأوسع للتعامل مع الأزمة الأمنية في المنطقة ذاتها والتي تمثل تهديدًا عالميًا.
وسلط المقال الضوء على أسباب تنامي تلك الظاهرة، مؤكدًا أنه تم نسج شبكة تهريب متشابكة عبر منطقة الساحل وجزر نيجيريا تمتد لـ 6000 كيلومتر من المحيط الأطلسي إلى البحر الأحمر، لافتًا إلى أن تلك الشبكة باتت موطنًا لأكثر من 300 مليون شخص في بوركينا فاسو والكاميرون، وتشاد وغامبيا، وغينيا ومالي وموريتانيا والنيجر ونيجيريا والسنغال.
وبحسب المقال فإن عمليات التهريب التي تشمل سلعا وأدوية فاسدة وذهب، تؤدي إلى قتل 500000 إفريقي جنوب الصحراء كل عام؛ ويقدر أنها تقتل 500000 من الأفارقة جنوب الصحراء كل عام؛ إذ لقى 70 طفلًا في غامبيا مصرعهم في عام 2022 بعد تناول شراب سعال مُهرّب.
يأتي ذلك في وقت توقع فيه وكالات الأمم المتحدة أن أكثر من 37 مليون شخص في منطقة الساحل الإفريقي يحتاجون إلى مساعدات إنسانية في العام الجاري 2023، بزيادة قدرها 3 ملايين عن العام السابق 2022، في ظل تصاعد وتيرة الأزمات والانقلابات والإرهاب والأزمات اقتصادية.
ويعد الأمن أحد أبرز أزمات المنطقة لاسيما في أعقاب العام2011، وقد تفاقمت الأزمة الأمنية بها مع دخول تنظيم الدولة الإرهابي إلى المنطقة في عام 2015، وذلك وفقًا لمكتب مكافحة الإرهاب التابع للأمم المتحدة (CTED).
ممرات الموت
ويطلق على ممرات التهريب بالساحل الإفريقي "ممرات الموت"؛ إذ ساهمت في ساهمت في تصاعد الجريمة وتهريب المخدرات والاسلحة من جانب، وفاقمت الأزمات الأمنية في المنطقة من جانب آخر.
وصادرت السلطات الوطنية لبلدان المنطقة ( بوركينا فاسو ومالي وموريتانيا والنيجر وتشاد ) أطنانًا من المواد المهربة، كما فككت العديد من الشبكات، وفي عام 2020 نجحت عملية «KAFO II»، وهي عملية مشتركة بين مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة والإنتربول ،في خنق طريق إرهابي متجه إلى الساحل وتم ضبط 50 سلاحًا ناريًا، و40593 عصا ديناميت، و6162 طلقة ذخيرة، و1.473 كيلوجرامًا من القنب والقاتو 2263 صندوقا من المخدرات المهربة و60 ألف لتر من الوقود.
وشهد النشاط الإرهابي في منطقة الساحل (بوركينا فاسو، مالي، تشاد، موريتانيا، النيجر)، تصاعدًا مضطردًا في الآونة الأخيرة، حتى أن الجماعات الإرهابية تتناحر لبسط نفوذها في المنطقة؛ نظرًا لطبيعة المنطقة الجيوسياسية والاجتماعية وحدودها التي يسهل اختراقها.
وشكلت وفيات الإرهاب في منطقة الساحل الإفريقي 35٪ من إجمالي الوفيات الناجمة عن الإرهاب في العالم في 2021، مقارنة بنحو 1٪ فقط في2007، وذلك وفقًا لمؤشر الإرهاب العالمي.
وسلط تقرير حديث صادر عن مكتب الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات والجريمة، في فبراير الماضي، الضوء على السمات المميزة لعمليات تهريب الأسلحة في منطقة الساحل والتي غالبا ما تكون وجهتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر وتشاد، مشيرا إلى أنه إذا كان جزء من هذه الأسلحة يأتي على متن طائرات من فرنسا أو تركيا عبر نيجيريا فإن القسم الأكبر منها يأتي من القارة الأفريقية نفسها.
ووفق التقرير فإن المصدر الأول اليوم للأسلحة المهربة في دول المنطقة، هو أسلحة القوات الحكومية التي يتم الاستيلاء عليها خلال معارك أو هجمات، أو التي تسرقها عصابات، أو التي يبيعها عناصر فاسدون في هذه القوات الحكومية لتجار السلاح.
وقال رئيس الأبحاث في مكتب الأمم المتحدة المعني بمكافحة المخدرات والجريمة فرانسوا باتويل، خلال عرضه التقرير أمام الصحفيين، إن كميات أخرى من الأسلحة والذخيرة تم تهريبها إلى دول الساحل من ليبيريا وسيراليون اللتين دارت فيهما حتى مطلع القرن الـ21 رحى حروب أهلية طاحنة.
ولفت باتويل إلى أسلحة حديثة بدأت تصل مؤخرا إلى منطقة الساحل من ليبيا، في انتهاك لحظر الأسلحة المفروض على هذا البلد.
وبالحديث عن جذور نشأة ممرات الموت في منطقة الساحل يمكننا تقسيمها لـ3 مراحل، أولها منذ منتصف السبعينات حتة أوائل تسعينات القرن الماضين مع استغلال القذافي لطرق القوافل التقليدية -التي يسيطر عليها الطوارق والقبائل العربية الأزوادية من جنوب ليبيا وحتى شرق موريتانيا وشمال مالي- لإيصال السلاح والمؤونة والعتاد إلى مقاتلي جبهة البوليساريو؛ وذلك بعد الغضب العارم الذي انتاب الرئيس الجزائري الراحل بومدين، عندما علم بأن تلك القوافل كانت تمر من الجنوب الجزائري دون علم الحكومة الجزائرية؛ الذي كاد يتحول إلى أزمة دبلوماسية بين البلدين، وخلال عقدي الثمانينات والتسعينات تحول هذا المعبر إلى تهريب السلع الغذائية والبنزين من الجزائر وليبيا؛ هذه السلع المدعومة من الدولتين، وغدت مدن غات والقطرون (في ليبيا)، وجانت وتامنراست (في الجزائر)، وأغاديس (في النيجر)، وتازواتن وكيدال وغاو وتمبكتو ومنكي (في مالي) محطات مزدهرة لتجارة السلع والمواد المهربة من الجارتين الجزائر وليبيا؛ إلا أن أحداث العشرية السوداء بالجزائر جعلت الجيش الجزائري يُحكِم قبضته على ممرات التهريب ومعابره الحدودية؛ لتصاب تلك التجارة بركود، ويتقلص نشاطها بشكل لافت لنصف عقد من الزمن؛ لكن سرعان ما دبت الروح في تلك المعابر، وازداد النشاط فيها بشكل كثيف منذ عام 2006.
أما المرحلة الثانية فتمتد بين العامين 2006 وحتى 2011، وقد عُرفت هذه المرحلة بالحقبة الذهبية لتجارة المخدرات؛ حيث عبرت خلال هذه المعابر 93% من المخدرات القادمة من أميركا اللاتينية والمتجهة إلى أوروبا؛ وذلك بعدما غيَّر المهربون في بوليفيا وكولومبيا وبيرو وجهتهم من أميركا الشمالية إلى أوروبا الغربية؛ بعد الإجراءات الأمنية الصارمة التي اتبعتها الولايات المتحدة، التي حدَّت كثيرًا من حجم المخدرات وتدفقها إلى أميركا الشمالية، ولاسيما صنف الكوكايين، وكانت دول غينيا بيساو وموريتانيا ومالي والسنغال المحطات الرئيسة الأولى لتهريب هذه المخدرات إلى أوروبا عبر موانئ المغرب والجزائر وليبيا.
كما شهدت هذه الفترة تغلغل القاعدة وتحديدًا "قادة الأفغان العرب" إثر الضربات الموجهة، التي تلقاها التنظيم في أفغانستان بُعيد أحداث 11 من سبتمبر 2001؛ حيث يشير العديد من التقارير الاستخباراتية إلى أن المنطقة الممتدة على طول خمسة آلاف كيلومتر من شرق وشمال النيجر مرورًا بشرق وشمال مالي، وانتهاءً بشرق وجنوب موريتانيا، أضحت تحت السيطرة المطلقة للتنظيمات الجهادية، ولاسيما شمال وشرق كل من النيجر ومالي؛ اللتين تتراخى السلطة المركزية فيهما، وتقعان بعيدًا عن العواصم؛ بل إن أجزاء كبيرة من هذه الصحراء فعليًّا تقع خارج سلطة الدولة.
أما المرحلة الثالثة فتمتد من العام 2011 وحتى الآن؛ غذ عُرفت هذه المرحلة بالهجرة غير الشرعية المتجهة صوب القارة العجوز عبر ليبيا؛ إثر سقوط نظام القذافي، وسيطرة الميليشيات المسلحة على مقاليد الأمور في معظم المدن الليبية؛ حيث شهدت منطقة القرن الإفريقي ومنطقة الساحل الإفريقي معدلات قياسية لتدفق المهاجرين غير الشرعيين، سيطرت على معظمها التنظيمات الجهادية المتطرفة في الساحل الإفريقي أو داخل ليبيا، كما تزايدت كميات المخدرات المهربة عبر السواحل الليبية إلى أوروبا، ولم تعد تتوقف على الكوكايين القادم من أميركا اللاتينية؛ بل أضيف إليه الهيروين القادم من أفغانستان عبر طريق إيران واليمن والصومال وتنزانيا وكينيا، يتجه جزء منه إلى الأسواق الإفريقية في جنوب إفريقيا ونيجيريا، والجزء الثاني يُهرَّب عبر السودان وتشاد ليصل إلى ليبيا؛ ليتم لاحقًا تهريبه إلى أوروبا.
rimafric