كثيرة هي التحديات التي تهدد حاضر ومستقبل هذا الوطن الافتراضي الذي ننتمي إليه افتراضيا، والذي نطلق عليه افتراضا الجمهورية الإسلامية الموريتانية. ولعل من بين تلك التحديات، إن لم يكن أخطرها على الإطلاق، هو أننا لم نستطع حتى الآن، وبعد ما يزيد على نصف قرن من إعلان ميلاد الدولة الموريتانية أن نتحرر من عقلية القبيلة والجهة، والعرق، تلك العقلية التي تحكم تفكيرنا وتوجه سلوكنا خلال كل مراحل تعاملنا مع الشأن العام.
المصيبة الكبرى أن الانتماء للقبيلة أو للجهة أو للعرق يزداد وضوحا وبروزا لدى النخب أكثر منه لدى العوام، والمصيبة الأكبر أن ذلك الانتماء يزداد تحكما في سلوكنا وفي تصرفاتنا عاما بعد عام، ونظاما بعد نظام. حقيقة إن ما يجري في هذا البلد لهو شيء مخيف جدا، ومقلق جدا.
إنه يجعلك تشعر بالعار من انتمائك لجمهورية القبائل والأعراق، ويجعلك تفكر في أن تقدم استقالتك كمواطن، وأن ترمي بجنسيتك الموريتانية في أول حاوية قمامة تصادفك، ثم تهاجر بعد ذلك بعيدا علك تحصل على جنسية أخرى، تمنحك حق الانتماء لبلد آخر، حتى ولو كان ذلك البلد هو دويلة "توفالو" البائسة، والتي شكلت واحدة من أهم اكتشافات دبلوماسيتنا في السنوات الأخيرة.
ففي دويلة "توفالو" البائسة لن تسمع قطعا عن قبيلة تنظم مسيرة حاشدة انتصارا لابنها المحكوم عليه بخمس سنوات، والذي اعترف علنا بأنه هو ـ لا غيره ـ من نهب مئات الملايين من أموال الجيش، وبددها ذات الشمال وذات الشمال، حتى وإن برر عملية النهب تلك بأنها كانت نتيجة لعملية سحر، وقع ضحية لها، وأرغمته على أن يُخرج مئات الملايين من أموال الجيش وهو مسحورا، ويسلمها لشريكه في العملية.
طبعا لقد نسيت هذه القبيلة المحترمة أبناءها العاديين من أفراد الجيش الذين نهب الضابط المحاسب رواتبهم وبددها..ودائما ما تنسى القبائل ـ كل القبائل ـ أبناءها الضحايا، وذلك في الوقت الذي لا تجد فيه حرجا من الوقوف ـ وعن بكرة أبيها ـ مع أبنائها اللصوص الذين لا يتورعون عن نهب المال العام.
وما سرق سارق في هذا البلد وسُجن، إلا وأعلنت قبيلته عن حالة استنفار شامل، إلى أن يتم إطلاق سراحه.
وما تورع موظف عن مال عام، إلا وانتبذته قبيلته، وتبرأت منه إلى يوم الدين، هذا إن لم يعد إلى رشده، فيسرق كما سرق من قبله بعض أبناء القبيلة، وكما سيسرق من بعده البعض الآخر من أبناء القبيلة.
وفي دويلة "توفالو" البائسة لن تسمع قطعا عن نزاع على أرض غير مشرعة، كاد أن يدخل قبيلتين في حرب طاحنة. وفي دويلة "توفالو" البائسة لن تسمع عن مهرجان سياسي مشهود للمِّ شمل قبيلة أخرى.
وفي دويلة "توفالو" البائسة لن تسمع قطعا عن أمير من الشمال يتحدث في قناة تلفزيونية محلية، عن تهميش الشمال، ولن تسمعه قطعا وهو يهدد ويتوعد ويحذر النظام من مواصلة تهميش المدن الشمالية.
وفي دويلة "توفالو" البائسة لن تسمع قطعا عن وزير وسفير سابق في قناة تلفزيونية أخرى يتحدث عن تهميش الشرق الموريتاني، ويقول بأن تهميش الشرق وحرمانه لم يعد مقبولا، وأن احتكار الشمال للسلطة والثروة لم يعد مقبولا بعد أن استمر لأربعة عقود من الزمن.
وفي دويلة "توفالو" البائسة لن تسمع عن أمير، وعن طبل، وعن حفل عظيم، وعن أشياء أخرى، يتم نقلها ـ وبشكل مباشر ـ عن طريق إذاعة محلية، ويتم من خلالها إعلان انتساب الأمير وحاشيته للحزب الحاكم، وذلك حتى لا تبقى منطقة الأمير مهمشة ومحرومة من ثروات البلاد.
وبطبيعة الحال فمن حقكم أن تتساءلوا عن أي طريق تسلكه خيرات البلاد ما دامت كل مناطق موريتانيا ـ حسب أمراء تلك المناطق ووجهائها ـ يعانون جميعا من التهميش والإقصاء، ولعقود متواصلة؟ ذلك سؤال لن أحاول أن أجيب عليه في هذا المقام.
وفي دويلة "توفالو" البائسة فإنك لن تحتاج قطعا لأن تستنفر قبيلة بكاملها، أو تلجأ لوجيه من وجهائها قد يكون أميا، وذلك من أجل الحصول على وظيفة، لن تحصل عليها بالطرق المعهودة، حتى ولو لهثت سنين عددا، بسبب ثقل الشهادات والملفات والسير التي تحمل معك أينما حللت، وأينما نزلت.
وفي دويلة "توفالو" البائسة فأنتَ لن تحتاج قطعا لأن تستنفر قبيلة بكاملها كلما واجهتك مشكلة، كبيرة كانت أو صغيرة، وذلك لأنه باستطاعتك أن تحصل على حقوقك في "توفالو" بوصفك مواطنا، ودون الحاجة لاستنفار قبيلة بكاملها، أو التودد لأحد وجهائها، إن توددت له مرة، فذلك يعني بأنك قد وقعت في مصيدة القبيلة وحبائلها، والتي لن تخرج منها أبدا.
وفي دويلة "توفالو" البائسة لن تتكرر على مسامعك، وفي كل يوم، الخطابات العنصرية من هنا ومن هناك، من هذه الفئة أو من تلك، من هذا العرق أو من ذاك.
وفي دويلة "توفالو" البائسة لن تصادف هناك "مناضلا" يتحدث كما يشاء، وبالطريقة التي يشاء، فيسب من يشاء، ويسخر ممن يشاء، ويهدد من يشاء، ويحرق من الكتب ما يشاء، ولا يسلم منه أحدا.
وفي دويلة "توفالو" البائسة لن تسمع "مناضلا" آخر يرفع شعار الدفاع عن الجنسية، لن تسمعه وهو يقول في مقابلة مسموعة ومكتوبة: " في الوقت الذي نحن فيه على يقين بأننا نشكل أغلبية بالمقارنة مع العرب البربر، لا يزال الزنوج يتعرضون للتمييز في جميع القطاعات، وبما أننا مقتنعون بأن هناك تغييرا سياسيا حتميا في موريتانيا، لا نريد، عندما يأتي ذلك اليوم، أن يتفرق الزنوج، في أحزاب بقيادة العرب البرابرة أو لحراطين."
وفي دويلة "توفالو" البائسة فإنك ستسمع ـ على الأقل ـ الأصوات العاقلة والراشدة مع الأصوات المتطرفة. أما هنا في جمهورية القبائل والأعراق فلن تسمع إلا الأصوات المتطرفة، ومن كل الشرائح والأعراق. أما العقلاء فهم ما بين ضعيف منسحب بسبب زهده وورعه الزائف، أو مُغيب تم تهميشه، وحُبس صوته. وفي جمهورية القبائل والأعراق فإن السلطة هنا ما تزال ـ كعادتها ـ تبذل جهودا جبارة، وتقيم مشاريع طموحة، وذلك من أجل تدمير ما تبقى من معالم الدولة الموريتانية، حتى تؤسس على أنقاضها جمهورية القبائل والأعراق الموريتانية. ولو أن السلطة لم تكن تسعى ـ وبشكل حثيث ـ إلى تأسيس جمهورية القبائل و الأعراق، لجرَّمت كل الممارسات القبلية والجهوية والعرقية في كل ما له صلة بالشأن العام، ولاستحدثت ـ وعلى وجه السرعة ـ وكالة خاصة بمحاربة القبلية والجهوية والفئوية.
ولا يعني تقصير السلطة وخبثها، بأن المعارضة لم تلعب من جانبها دورا مهما في بناء جمهورية القبائل والأعراق. فالمعارضة ساهمت هي أيضا في الماضي، وما تزال تساهم، وبكل ما هو متاح لها من وسائل، في بناء دولة القبائل والأعراق. فبعض المعارضين لا يتورع عن سب وشتم من ثبت بأنه من قبيلة الرئيس، أو من جهته، حتى ولو كان ذلك الشخص على خلاف دائم مع الرئيس.
فهذا معارض شاب، والمصيبة الكبيرة أنه شاب، والمصيبة الأكبر أنه قيادي في أكبر أحزاب المعارضة، يسب قبيلة بكاملها، ويشتمها عن بكرة أبيها، ويصفها بأبشع الأوصاف، ويصنفها بأنها قبيلة "هنتاته"، لا لشيء إلا لأن تلك القبيلة لسوء حظها، أو لحسن حظها بلغة أخرى، ينحدر منها الرئيس الحالي، ولا أريد أن أقول بأن هناك سببا آخر، هو الذي جعل مثل ذلك الشاب المعارض يُسخر قلمه لسب وشتم قبيلة الرئيس.
وهذا شاب آخر، والمصيبة أنه يدعي بأنه أستاذ، أي أنه مسؤول عن تربية بعض أولئك الذين سيصبحون غدا هم رجال المستقبل، ينشر مقالا تافها وبائسا وسخيفا تحت عنوان "عويل وطن ينهشه غربان توهمها الناس سباعا". ولقد نُشر هذا المقال ـ أول ما نُشر ـ في موقع تابع لمؤسسة إعلامية معروفة، ولكن ذلك الموقع حذفه مشكورا بعد أن كنت قد نبهته على خطورة نشر هذا النوع من المقالات الذي يسيء لكاتبه ولناشره أكثر مما يسيء لأي جهة أخرى. ولكن يبدو أن صاحب المقال المذكور أعاد نشره في موقع آخر.
وإليكم فقرة مما كتب هذا الأستاذ البائس، وهي ليست بأسوأ فقرة في مقاله :" و سأركز هنا على مثال إحدى القبائل الصحراوية التي خلع عليها من قبل بعض مجموعات المنطقة العديد من سمات الغراب إلى حد تسمية أفرادها بأولاد الغربان، لكن حيل تلك القبيلة أوحت لها – مع الزمن - بإمكانية أن تضيف نفسها إلى السبع بدل الغراب . و بحسب بعض المرويات التاريخية، فان أبناء تلك القبيلة قد شبهوا بالغربان و أضيفوا إليه، نظرا لتطير العديد من المجموعات من تلك القبيلة إلى جانب تلصهها وسرقة أفرادها لكل ما تقع عليه أعينهم و أكلهم للجيف .." ألا يُخجلكم حقا بأن جنسية هذا الأستاذ هي نفس جنسيتكم، وأنكم وإياه يجمعكم نفس البلد؟
لا خير في بلد يكتب أساتذته مثل هذا الكلام البائس، وفي منتصف العام 2012.
حفظ الله موريتانيا..