عندما تنهار القيم والأخلاق، ويهرب الحكماء والعقلاء من الميدان بدعوى ورع زائف. وعندما يكثر الهرج والمرج، وتشهر الأسلحة الفاسدة في كل مكان، فتنفجر قنابل السب ومفرقعات الشتم هنا وهناك، ويشهر بسلاح الفتنة العرقية هنا وهناك، وتستنفر القبيلة هنا وهناك. عندما يحدث كل ذلك فأعلم بأن الصمت حينها حرام..
وأعلم بأن التفرج وقتها لا يليق حتى بالعوام..
وأعلم بأنه "ما كل مرة تسلم الجرة"، ولا يغرنك ـ يا أيها المتفرج دائما وأبدا ـ أن وطنك كان ينجو دائما بأعجوبة، ولمدة نصف قرن، ظل خلالها ينتقل من فاصلة زمنية حرجة إلى فاصلة أشد حرجا، في وقت ظلت فيه خيرة أبنائه تتفرج عليه دون أن تعينه وهو يتنقل بين تلك الفواصل وكأنها تتفرج على لاعب سيرك بارع في مشهد مثير.
وأعلم ـ يرحمك الله ـ بأن الوَرِع حقا، والوطني حقا، والحكيم حقا، والشهم حقا، والبطل حقا ليس ذلك الذي يهرب عن هموم بلده، وليس ذلك الذي يحاول أن ينأى بنفسه ـ متعللا بحجج واهية ـ فيترك بذلك ثغرا مكشوفا هنا أو هناك في جسد وطن عاثر، أصبحت النصال فيه تتكسر على النصال، ولم يعد فيه موضع أصبع معافى.
في مثل هذه الأوقات العصيبة، تصبح أخطر جريمة يمكن أن نرتكبها في حق وطننا هي أن نواصل الهروب، ونكتفي بالتفرج على متابعة الآخرين يعبثون بمصير وطننا، وبالتالي يعبثون بمصيرنا وبمصائر أبنائنا.
ولو أنه قدر لنا أن نلتقط صورة فضائية لرسم خريطة للموريتانيين وتوزيعهم حسب تفاعلهم مع قضايا وهموم الوطن، في هذه الفاصلة الحرجة من تاريخنا الحرج كله، لوجدنا أن خيرة الموريتانيين هم الذين يعيشون الآن على الهامش، وهم الذين يكتفون بالتفرج. وبطبيعة الحال فلا عذر لهم سواء كانوا هم من أختار العيش على الهامش، أم أنهم كانوا قد أجبروا على ذلك، لأنه في النهاية لا فرق بين الحالتين، إذا ما تحدثنا بمنطق سياسي بحت، فلا معنى إطلاقا لأن يقبل مواطن صالح بأن يقصيه مواطن آخر من التفاعل مع هموم وقضايا وطنه.
فكم هو مقلق ومخيف أن تكتفي خيرة أبناء هذا الوطن بالتفرج، وأن لا تفعل شيئا سوى الانتظار والانتظار فقط حتى يتحدد مصير الوطن، ويحسم أمره، على يد قلة من أبنائه لم تشتهر سابقا بشدة حرصها على مصيره.
فيا أيها الطيبون كفى هروبا..
ويا أيها الصالحون كفى صمتا..
ويا أيها العقلاء كفى سلبية..
ويا أيها الورعون كفى تفرجا..
لقد حان الوقت لأن تفعلوا شيئا من أجل وطنكم، لأنكم إن لم تفعلوه الآن فقد لا تتاح لكم فرصة أخرى لفعله، حتى ولو تولدت لديكم الرغبة لذلك.
ويبقى السؤال: ما الذي يمكن أن أفعله الآن من أجل وطني؟
أعتقد بأن هناك مجالين يمكن لكل واحد منا أن يتحرك من خلالهما لخدمة وطنه:
أولا : على المستوى الفردي: وهذا لن أفصل فيه، فالمهم أن يعلم كل واحد منا ـ ومهما كانت قدراته وإمكانياته، ومهما كانت الفرص من حوله ـ بأن هناك شيئا ما يمكن أن يقدمه الآن لوطنه، وعليه أن يقدم ذلك الشيء الآن، ودون أي تأخير، وهذا يعني أن لا ينتظر أن يصلح المجتمع كله ليقرر هو أن يكون مواطنا صالحا، فعلى كل واحد منا أن يقرر من الآن أن يكون مواطنا صالحا حتى ولو ظل المجتمع كله فاسدا.
ثانيا : العمل في إطار فريق أو ضمن جماعة : وهذا المجال هو الذي سيتم التركيز عليه في هذا المقال، وسأكتفي هنا بالجانب السياسي نظرا لأهميته في إحداث التغيير نحو الأفضل، ولكن قبل عرض بعض المقترحات في هذا المجال، فقد يكون من الضروري تقديم بعض الملاحظات السريعة:
الملاحظة الأولى : لا شك بأن الوعي السياسي لدى الموريتانيين قد زاد ـ وبشكل ملحوظ ـ حلال السنوات الأخيرة، نتيجة للهزات العنيفة التي شهدتها البلاد خلال تلك السنوات، ونتيجة كذلك لما تشهده المنطقة العربية من تحولات كبرى.
الملاحظة الثانية: لاشك أيضا بأن ثقة الموريتانيين في نخبهم السياسية قد تعرضت لهزات عنيفة خلال السنوات الأخيرة، وأن مصداقية تلك النخب قد تراجعت إلى أدنى مستوى لها، نتيجة لسلسلة من الأخطاء الشنيعة التي ارتكبتها، والتي لم يسلم منها إلا من رحم ربك. الملاحظة الثالثة: لا شك كذلك أن النظام الحالي قد لعب دورا كبيرا في إضعاف دور رجال الأعمال والوجهاء وشيوخ القبائل في التأثير على الحياة السياسية، وذلك بعد أن سلب من أغلبيتهم الكثير من الصلاحيات والامتيازات التي كانت تمكنهم من تأمين مكانتهم الاجتماعية والسياسية. فاليوم لم يعد لدى الناخبين الكبار ما يقدمونه للاحتفاظ بمكانتهم (ولا يهم هنا إن كان النظام قد فعل ذلك بوعي أو بدون وعي، عن قصد أو بدون قصد).
الملاحظة الرابعة: لا شك بأنه قد أصبحت هناك ضرورة ملحة، وملحة جدا، لتجديد الطبقة السياسية، ولكن ـ بالتأكيد ـ ليس على أساس أن تجديدها هو مجرد عملية شكلية تقتصر على دفع بعض الشباب المفعول بهم إلى الواجهة السياسية، حتى ولو كان أولئك الشباب يفكرون بعقلية بائدة، ويتصرفون وفق منطق وأساليب أكثر بؤسا من الأساليب التي كان يستخدمها من يراد تجديدهم. إن تجديد الطبقة السياسية هو تجديد للعقليات ولأساليب العمل من قبل أن يكون تجديدا شكليا يركز فقط على الجانب العمري.
إن التأمل في كل تلك الملاحظات السابقة ليؤكد بأننا نعيش فعلا لحظة تاريخية فريدة من نوعها قد لا تتكرر في المستقبل المنظور، ونحن إن لم نستغلها استغلالا جيدا، فسنكون بذلك قد أضعنا فرصة نادرة لإحداث تغيير جاد في هذا البلد المتعطش للتغيير. إن القراءة الذكية لهذه اللحظة تقول بأنه على الموريتانيين الشرفاء في هذا البلد، أن يبدؤوا من الآن في التفكير الجاد لتأسيس تشكيلات سياسية غير تقليدية تكون قادرة على استقطاب الأغلبية الصامتة من أبناء هذا الوطن، والتي سئمت من لعب دور المتفرج.
لقد آن الأوان لفتح عناوين سياسية جديدة بمواصفات ومقاسات جديدة، تختلف عن كل العناوين القديمة، ومن الضروري أن تتميز هذه التشكيلات بجملة من الميزات يمكن أن أذكر منها:
1 ـ أن تكون لمؤسسي هذه التشكيلات نظرة مختلفة للعمل السياسي، تنظر إلى ذلك العمل بوصفه ليس إلا مجالا من مجالات العمل الخيري والتطوعي، وأن الغرض منه ليس تحقيق مصالح خاصة آنية، وإنما الغرض منه تحقيق مصالح عامة من خلال التضحية بمجوعة من المصالح الخاصة. ومن هذا المنطلق فقد يكون من المهم جدا أن تكون من شروط العضوية الانضمام لها، استعداد العضو للتبرع بساعة من وقته كل أسبوع للخدمة العامة، وهو ما سيمنحها القدرة على تنظيم أنشطة تطوعية كل أسبوع.
2 ـ أن يكون لمؤسسي هذه التشكيلات الجديدة القدرة على التفكير من أجل الصالح العام، فمشكلتنا في هذا البلد هو أننا لا نستطيع أن نستغرق في التفكير لدقائق معدودة في قضية عامة، وأننا لا نستطيع أن ننتج أفكارا قابلة للتجسيد الميداني من خلال الوسائل والإمكانيات المتاحة، لذلك فمن الضروري جدا أن يكون للقائمين على هذا الحزب خيال سياسي واسع، مع قدرة كبيرة على إنتاج أفكار قابلة للتنفيذ.
3 ـ أن يكون لمؤسسي هذه التشكيلات من الثقة في النفس ومن قوة الحماس ما يكفي لمواصلة أنشطتها في ظروف صعبة. كما أنه على هؤلاء المؤسسين العمل من أجل إضفاء بعد أخلاقي حقيقي على نشاطها السياسي، وذلك من خلال الابتعاد الكامل عن لغة السب والشتم حتى ولو كانت للرد على سب أو شتم تعرض له الحزب، أو تعرض له أحد أعضائه. إن على مؤسسي هذه التشكيلات أن يعتبروا بأن استخدام أي عبارة بذيئة أو الاستعانة بأي كلمة سب أو شتم ضد أي خصم سياسي مهما كانت طبيعة ذلك الخصم يعتبر إهانة للحزب، من قبل أن يكون إهانة للخصم. وهذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن تظهر هذه التشكيلات أي ضعف أثناء مواجهتها لخصومها السياسيين، فكل ما في الأمر هو أن هناك فرقا كبيرا بين الحجة القوية والجرأة على التلفظ بالكلام الجارح والبذيء.
4 ـ أن تغلق هذه التشكيلات أمام أي موريتاني في سجله الوظيفي أي شبهة في مجال التسيير، أو شارك من قبل في أي نشاط قبلي أو جهوي له صبغة سياسية، أو عرف عنه أي توجه عنصري، أو أي دعوى عرقية ضيقة، أو عرف "بالخفة السياسية"، وبكثرة الترحال السياسي.
5 ـ أن يكون لمؤسسي هذه التشكيلات القدرة على القيام بأنشطة ميدانية لتعزيز اللحمة الوطنية، ولمحاربة مخلفات الاسترقاق، وأن يتركوا لغيرهم التحدث بتلك الشعارات، وأن لا ينافسوهم على التغني النظري بتلك الشعارات.
وقد يخيل للبعض بأن تحقيق تلك الشروط هو مسألة في غاية الصعوبة، والحقيقة هي العكس تماما، فتحقيقها هو أمر في غاية السهولة، ولا يحتاج إلا لقرار جاد، وإرادة جادة، مع شيء قليل من طول النفس، وشيء غير يسير من الوطنية.
وقديما قال"أفلاطون": إن الثمن الذي يدفعه الطيبون لقاء لا مبالاتهم، هو أن يحكمهم الأشرار. حفظ الله موريتانيا...