طابور طويل...
وجوه شاحبة مرهقة لم يمر عليها ماء الصباح خوفا من أن تضيع مكانها في الألف الأولي للسيد المحترم الطابور. أنفاس مختنقة. أصوات شبه مبحوحة. وعيون لا زال النعاس يداعبها بين الفينة و الفينة لكن يوقظها ذلك الكابوس الذي عايشت لسنوات, و الخوف من ان يحتل احدهم مكانها بطريقة الكزرة, فنحن من حولنا بكل فخر الإحتلال في قاموس اللغة إلي كزرة. تثائب يخرج من الأفواه أنواع روائح الجوع كتنوع ألوان الطيف في صيغتها الموريتانية البائسة. سواعد مترهلة. وأرجل يطليها غبار شوارع أنواكشوط بعد معركة مع تسريع الخطى إستجابة لنداء السيد المحبوب كرها فخامة طابور إكتتاب وظيفي.
ـ اللائحة لولة منين؟
صرخة يطلقها شخص قادم من بعيد لعلها تسبقه في حجز مكان في طابور مازال سيعد فيه مسافات ضوئية قبل أن يصل دوره ليقدم ملفه في إمتحان وظيفة عرف صاحبها سلفا لكنه الأمل الميت و لا خيار غير التمسك به ولو كان وهما. يريد أن يحجز مكانا في طابور لآلاف المقدمين من أجل إكتتاب ثلاثين أو أربعين و في أحسن الأحوال خمسين فما هي نسبة الخمسين في الألف من باب أحري آلاف. لكنه ورغم الإحباط و التعب و الوجع و الألم يتمسك بأي بصيص أمل مهما كان ضئيلا فقد أنهكه الإنتظار و مزق قلبه اليأس من غد مشرق ولم يبق له في الدنيا الا أن يردد لاحول ولاقوة الا بالله يستعين بها علي رحلة جديدة مع الإنتظار. الفرج قريب هذا لسان الحال الذي لابد منه و إلا فان الخيار سيكون وضع حد لحياة ترفض ان تخلع ثوب الحزن الأسود.
ـ أنت مافت شتغلت؟
سؤال مر الطرح, موجع الاجابة, خاصة إذا كان المطروح عليه شاب يرقب أيامه تضيع بين مطرقة اليأس وسندان البطالة. الجريئ من يجيب مطأطئ الرأس "مافت الا انشالا دور الا يفتح مولان" ويبتلع بعدها غصة يتبعها اختناق خفي يعرف سببه لكن لا يدري له علاجا فالأيام الماضية كالحاضرة و ربما كالآتية. لتكون المعادلة الاعجازية بعد التشخيص عرف الداء ولكن عز الدواء.
إدمان التسكع بين الإدارات وقراءة الإعلانات علي الجدران مرورا بوكالة تعطيل الشباب بعد تصحيح الخطأ الاملائي "وكالة تشغيل الشباب". روتين يومي أو أسبوعي أو شهري مرهق. و الأدهي و الأمر أنه قبل رحلته المكوكية بحثا عن الأمل المفقود يعرف أنه لن يعثر علي شيئ لكن يقول لعل الله معاودا الكرة مع الانتظار.
يعرف المفتاح الذي ينتشله من الضياع لكن هذا المفتاح لا يكون إلا عند الصفوة المختارة ممن ولدوا وفي افواههم ملاعق من ذهب يردد في نفسه بأسي و حزن ووجع وهو ينظر إلي حصاد العمر الضائع من شهادات "آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه لو كانت عندي وساطة كان لاه يوقد مراره". شهادات خالها أيام الطفوبة و الصبي و المراهقة مفتاح الحياة السعيدة و الرقي في المناصب ليكتشف بعد فوات الأوان أنها لا تقدم و لا تأخر مجرد حمل زائد إحراقها من أجل إعداد كأس من الشاي ربما يجعل لها فائدة اكبر مما هي عليه الآن.
يكلم نفسه في ركن من البيت منزو عن الناس في وحدة الموجوع المعهودة لعل دمعة تسقط تزيح بعض ما في الصدر من حشرجات و ألم وأختناق. لسان الحال ضاع العمر. يدمن موقع "بيتا للتوظيف" إن كان من المحظوظين بجهاز لا يعرف كيف حصل عليه وإن لم يكن تردد علي مقاهي الإنترنت لإضاعة بعض الوقت الضائع أصلا ماكثا ساعات مقلبا إعلانات توظيف محسومة النتائج قبل إعلانها أصلا. دقائق التصفح هذه تزيد الهم هما علي هم و الإكتئاب إكتئابا علي أكتئاب. خبرة ثلاث سنوات , أربع سنوات, 5 سنوات الخ........
"من أين آتي بالخبرة ياناس وأنا مازلت أتحسس الخطي علي أحصل علي كناس تغنيني عن السؤال و تكرمني بدل لقب مخفي وإن كان لا ينطق امامي عالة علي أهله؟". ـماذا افعل؟
لا يتوقف عن طرح السؤال مع أنه يعرف ان الإجابة غير متاحة. وتمضي الليالي و الشهور و تنقضي وظلمك ما يزداد إلا تماديا يا بلادي.
هل تعرفين من أنا؟
ابنك العاطل المكلوم في أيامي و سعادتي و آمالي و أحلامي. انا جرح ينزف إنتظارا قاسيا تتحول الثواني فيه إلي قرون و الصبر ضجر مني وهجر المضاجع. ومع ذلك مازلت أنتظر لعل الله يحدث بد ذلك أمرا. من كل عام لعام يطل امتحان إكتتاب لا يسمن و لا يغني من بطالة فأهجر الفراش المهكع باكرا لأدخل الطابور الطويل الطويل. و النتيجة بعد أيام من التبكير ولفح الشمس بالساعات الطوال صفر و انتظار مستمر و فرج مؤجل تاريخه المجهول. امتحان إكتتاب هذا أم إمتحان للصبر علي المر؟
أيها الناس يسكن بينكم أناس ينزفون لكن لا ترونهم. لا أصدق وعود الحكومات فمن يتقاضي راتبا بمئات الآلاف لا يمكن أن يحس بمعاناة العالة و الحرمان. لا أصدقك ايها االمسؤول عن همومنا و مصيرنا حين تطلق العنتريات و السياسات من تحت التكييف. جرب أن تعمل عاطلا لشهر ثم نلتقي بعدها و أسألك عن السياسات ؟