كلنا يعرف أن الإنسان العربي كان محكوماً عليه بمعاصرة زعيم واحد أو اثنين على الأكثر خلال حياته حتى وإن تجاوز عمر المواطن التسعين عاماً، فهو يولد على وقع خطابات الزعيم، ويتزوج، وينجب أطفالا وربما يزوج أبناءه وما يزال الزعيم حاكماً حتى لو كان على فراش الموت غير قادر على التحكم بوظائفه الفيزيولوجية أو فاقداً الوعي منذ سنين. لا عجب أن تهكم أحدهم ساخراً ذات مرة: "إن الأناس الوحيدين الذين لا يطلــقون زوجاتهم (الأوطان) هم الحكام، فهم، من شدة ورعهم، يؤمنون بقوة أن الطلاق هو أبغض الحلال إلى الله". وعندما يرحلون أو تكنسهم الشعوب تحل الفاجعة لأنهم ربطوا مصير بلدانهم بمصيرهم. على العكس من وضعنا العربي، عندما يرحل زعيم غربي لسبب أو لآخر يجد شعبه آلاف الأشخاص الأكفـاء كي يحلوا محله دون عناء ولا جلبة. ولا تحدث أزمات، ولا خلافات، ولا يستنفر الجيش وأجهزة الأمن، ولا يصبح مصير البلاد على كف عفريت لمجرد أن حاكمها قد انتهى. أما عندنا نحن العرب فتدخل البلاد والعباد في نفق مظلم. كيف لا وقد قام سيادته أو فخامته على مدى سنوات حكمه الطويلة بعملية إخصاء عنيفة ومنظمة لكل من فكر يوماً بأن ينافسه على الحكم كي يكون هو الفحل الوحيد في الدولة، ناهيك عن أن الزعيم العربي يعمد عادة إلى شن حروب استباقية شعواء ضد أي طامح بالزعامة حتى بعد خمسين عاماً وذلك على طريقة الملك هيرود. وقد صور أحد رسامي الكاريكاتير العرب تلك السياسة الاستئصالية الاحتكارية عندما رسم صورة لحاكم عربي وهو يحمل في يده مصباحاً كهربائياً يضيئه فوق من يشاء من مساعديه لسويعات إذا كان راضياً عنه، ويطفئه حينما يغضب عليه. بعبارة أخرى فإن الحاكم العربي لا يسمح لأحد أن ينافسه على بقعة الضوء، فهو الوحيد الذي يجب أن تـسلط عليه الأضواء. وكل من يفكر بمنافسته فهو ملعون مطعون إلى يوم الدين. وقد لاحظنا أن بعض الزعماء العرب كان يرفض حتى فكرة أن يكون له نائب ينوب عنه في تسيير أمور الدولة إذا مرض أو كان مشغولاً بقضايا عاجلة. وقد تحجج بعض الزعماء بأنه لم يجد الشخص المناسب في طول البلاد وعرضها كي يكون نائباً له!! وحتى إن تكرم بعضهم وعين لنفسه نائباً فيكون نكرة أو ضعيف الشخصية أو لا محل له من الإعراب السياسي إلا ربما في محل مجرور بحيث يُجَر ولا يَجُر. لهذا السبب تحديداً ليس لدينا قادة أقوياء يمكن أن يحلوا محل الزعيم الأوحد عندما يرحل لسبب أو لآخر لأن "القائد" العربي يعمل منذ البداية على إحاطة نفسه بمجموعة من الموالين من وزن الريشة الذين لا يتمتعون بأي شعبية أو هيبة، وهو يحاول أن يضمن دائماً ألا يكون هناك من يخلفه حتى بعد مماته، شأنه في ذلك شأن كل الطغاة. ومن سخرية القدر أن أبواق الإعلام الرسمي العربي كانت تصور لنا ذلك النوع من الزعماء زوراً وبهتاناً على أنهم "قادة تاريخيون". وبدلاً من تجريمهم وفضحهم على تجميع كل السلطات في أيديهم وشل الحياة السياسية في البلاد وشخصنة الدولة كان الكثير من الكتاب العرب يتغنى بأمجادهم وبطولاتهم الفارغة كما لو أن الزمان لن يجود علينا بأمثالهم. وقد كنت ذات يوم شاهداً على لقاء بين كاتب عربي وصحافي غربي دار حول تلك النوعية من الزعماء العرب. فقد تفاخر الكاتب العربي بأن لدينا قادة كارزميين عظاماً عز مثيلهم، فرد عليه الصحافي الغربي ساخراً: "نحن ومن حسن الحظ ليس لدينا هذا النوع من الحكام "التاريخيين" الذين أصبح بعضهم تاريخيين لمجرد أنهم جثموا على صدوركم ردحاً أو "تاريخاً" طويلاً من الزمن، لكن لدينا القدرة أن نفرز ألف قائد ليحل محل زعمائنا عندما يرحلون، لأن بلادنا ليست مختصرة في شخص سيادته أو فخامته. أما أنتم يا عرب، فمشكلتكم أن "زعماءكم التاريخيين" يعملون بمبدأ "أنا ومن بعدي الطوفان" أو "إذا مت ظمآناً فلا نزل القطرُ". وقد يعتبر بعضكم أيها العرب المهوسون "بالقائد الرمز أو الضرورة أو الملهم" أن الجيل الجديد من الزعماء ليس بكارزمية وفخامة الجيل القديم. وهذا صحيح، لكن فقط لأن وسائل إعلامكم لم تأخذ بعد الوقت الكافي من الكذب والتزييف والتلفيق كي تصنع منهم "قادة تاريخيين" مزعومين. ولو كنتم تفقهون أيها العرب لحمدتم ربكم لأنكم تخلصتم من "القادة الأفذاذ" الذين أوصلوكم إلى ما أنتم عليه من بؤس ومهانة. أليست العبرة دائماً بالنتائج يا صديقي؟" يتساءل الصحافي الغربي. لكن الكاتب العربي حاول أن يدحض نظرية الصحافي بأن الطوفان لم يأت دائماً بعد رحيل "قادتنا العظام"، فأجابه الصحافي الغربي: "الطوفان يا صديقي فعلا ًلم يأت في أحيان كثيرة لحسن الحظ بعد رحيل هذا "الزعيم التاريخي المزعوم" أو ذاك، لكن ليس لأنه خلف وراءه مؤسسات تستطيع أن تدير الدولة في حال غيابه، بل لأنه يكون قد ورّث "القيادة التاريخية" لنظام مشابه أو لذريته أو حاشيته "الميمونة" التي (تتزوج البلاد) من بعده وربما تصبح "تاريخية" أتوماتيكياً. لا أحد يستطيع أن يضاهيكم أيها العرب، فأنتم لا تورثون القيادة لأبنائكم وأحفادكم فقط، بل تورثون لهم التاريخ معها، فحتى التاريخ يصبح ملكاً "للقائد البطل" وعشيرته عندكم. ومن يدري فقد يلجأ قادتكم التاريخيون إلى استنساخ أنفسهم بحيث يسودون مدى الدهر ويصبحون "قادة خالدين". لكن بفضل الثورات المباركة فإننا متفائلون بأن هذا النوع من القادة "التاريخيين" سيذهب إلى مزابل التاريخ بلا رجعة، خاصة أن مصطلح "القائد التاريخي" قد تحول إلى بزنس سياسي مفضوح وغدا، في الكثير من الأحيان، الاسم الكودي للفساد والطغيان والاستبداد والديكتاتورية والاحتكار والاستئثار والتخريب والنهب والسلب. أليس من حق الإنسان العربي بعد كل ذلك أن يكفر بقادته "التاريخيين"، ويتمنى لهم جهنم وبئس المصير؟