لقد شَكَّـلَ خطابُ رئيس الجمهورية في مقاطعة باركيول إبان الحملة الرئاسية أملاً كبيرا لدى الطبقات المهمشة محلياً في منطقة آفطوط، خاصة ساكنة مثلث الفقر، ضحايا الفقر المتوارث والتغييب الممنهج عن دوائر صنع القرار، بفعل ما حمله برنامج "تعهداتي" من وعود وبشائر مطمئنة جعلت الجميع يتطلعُ إلى عهد جديد يتساوى الناس في ما تيسر فيه من موارد وطنهم، ويكشف فيه غطاء الحرمان عن ضحاياه، وينعم فيه المواطن بالعدل والإنصاف.
الحديث عن مقاطعة باركيـول حديث طويل ذو شجون، فقد نالت من الظلم والتهميش ما لم يطل مثيلاتها من مقاطعات الوطن، حيثُ تعتبر من أكبر مقاطعات الوطن وأكثرها كماً ديموغرافياً، كما تشكلُ نموذجاً مصغراً للوحدة الوطنية حيث تتواجد هناك جميع المكونات الاجتماعية للشعب الموريتاني وتتعايش جلها في ثقافة واحدة.
تتوسط مقاطعة باركيول سهول منطقة آفطوط الواسعة والخصبة، وتملك امتدادا جغرافياً يضم ثمان بلديات بتعداد ساكنة يزيدُ على 100 ألف نسمة، جسدَّ بدورهِ خزاناً إنتخابيا هاماً ما فتأ يسيل لعاب الساسة وصناع القرار في البلد من من لا يبصرون المقاطعة إلاَّ من زاوية تعداد المصوتين، ولا همَّ لهم سوى اللَّعب على عواطف الساكنة -المغلوبة على أمرها- ودغدغة مشاعرهم في المواسم الانتخابية.
مقاطعة باركيول، رغمَ وفاءها الدائم لكل الحكومات المتعاقبة إلاَّ أنَّ هذا الوفاء المطلق ما لبث أن حلَّ مكانه الإقصاء والتجاهل والنسيان لسنوات طويلة وحتى يوم الناس هذا، ولم يشفع لها تصنيف مثلث الفقر في لفت إنتباه صناع القرار بتلبية ولو مطالب بسيطة لصالح ساكنة المقاطعة المعزولة بل ظلت حبيسة الإقصاء على كل الأصعدة الإقتصادية والإجتماعية والسياسية والوظيفية، سنحاول التطرق لذلك في هذا المقال المتواضع حتى نُزيل اللّبسَ وننفض الغبار عن واقع مقاطعة آن لها أن تُنصفَ في عهد الإنصاف..
على صعيد البنى التحتية (الطرق) فالساكنة لا تزالُ تعيشُ عزلة خانقةً خصوصاً في فترة الخريف، والحلُّ يكمنُ في تجسيد طريق (الصواطة-الغبرة-باركيول)، الذي تعهد به فخامتهُ في برنامج تعهداتي معبراً بذلك عن إرادة سياسية جادَّة لدعم الآفطوطيين، وفهمٍ دقيق لما يتطلبهُ تعزيزُ التنمية في منطقة مثلث الفقر، وهو إبن المنطقة الذي يناط به الإلمام بمشاكلها قبل أن يكون رئيساً للجمهورية كلها، حيثُ تكمنُ جسامة المسؤولية ومصداقية التعهد.
للأسف طريق (الصواطة-الغبرة-باركيول)، لم يتعدى حتى يومنا هذا الصفحة رقم 25 من برنامج تعهداتي، ولم تتخذ كل من الحكومتين المتعاقبتين -في ما سبق من المأمورية- أي مسعى جدي في طورِ التمهيد لها، لا من حيثُ الدراسة الفنية ولا من حيثُ الحصول على التمويل ولم يقع ذكرها في برنامج الحكومة، بل اكتفت بدمجِ مقاطع طرقية أخرى لا تزيد أهمية عن طريق الصواطة في إستفزاز صريح لمشاعر ساكنة مثلث الفقر، وتجاوز فاضح لبرنامج تعهداتي الذي يعدُّ المرجعية الوحيدة للمشاريع المُعَبّّرِ عنها، والذي على أساسه صوتت الجماهير الآفطوطية لخيارها في الإستحقاقات الرئاسية الماضية، بل تم تسجيل أعلى نسبة تصويت للرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني في مقاطعة باركيول التي أخذت البرنامج بقوة وكانت وفية للحزب الحاكم كما كانت في كل الحقب الماضية.
لقد كانت هذه الساكنة ترى -ولا زالت- في فخامة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، الرئيس المنقذ لها من قوقعة الفقر والتهميش والعزلة التي كُتب لها أن تقبع فيها منذ ميلادها، واليوم تطالبُ هذه الساكنة أكثر من أي وقت مضى بحلحلة مشكل العزلة عن بلدياتها، إستناداً على برنامج تعهداتي الذي يعتبر المرجعية الوحيدة لبرنامج الحكومة، ويعكس رؤيتها لأولوية الإحتياجات الإجتماعية للمواطنين.
إن تعبيد طريق (الصواطة-الغبرة-باركيول)، سيعزز مجال الطرق الوطنية وسيشكل خياراً بديلاً لمقطع (شگار-الغايرة) من ما يساهم في خفض الضغط على طريق الأمل والحد من الحوادث المرورية.. كما أنه سيمكنُ حتماً من تعزيز التنمية في "منطقة مثلث الفقر" من خلال خفض تكلفة نقل البضائع والأفراد، وبما أن المزارعين في آفطوط -المعروف بخصبة التربة- يتجهون نحو الإكتفاء الذاتي في مجال الحبوب وهو التوجه العام للدولة مؤخراً، فقد بات من الملح تعجيل وتيرة إنجاز هذا المشروع لتعزيز الزراعة في المنطقة وضمان تصدير الحبوب والخضروات للمناطق المجاورة لمنطقة آفطوط بأسعار تنافسية وجودة عالية.
على صعيد قطاع الصحة، فالساكنة تعيشُ إحتقاناً شديداً يرجعُ سببهُ للنقص الحاصل في الكادر الطبي والبنى التحتية الصحية (مراكز صحية+معدات طبية).
لقد تفطنت إدارة وزير الصحة السابق: د. نذيرو ولد حامد لهذا الوضع الكارثي إبان زيارتها الأخيرة، وخلصت بعد عملية دراسة شاملة للخريطة الصحية في المقاطعة إلى ضرورة تعزيز المركز الصحي في البلدية المركزية بمركزين آخرين أحدهما في الجانب الغربي والآخر في الشرقي من المقاطعة، سبيلاً في تقريب الخدمة الصحية من المواطنين وتوسيع مجال النفاذ للخدمات العمومية.
لكن هذا المشروع الهام توقف عند أروقة الجهة المنفذة (وزارة الإسكان) وبقي وعداً على الورق ولما يرى النور بعد، رغم توصيات وزارة الصحة بأهمية تسريع وتيرة هذا المشروع وإنتظار الساكنة الطويل له. هذا الوضع الصحي الكارثي جعل الكثير من أبناء المقاطعة ينزحون بمرضاهم صوب عاصمة الولاية أو يشدون الرحال إلى العاصمة نواكشوط، ولكم أن تخالوا ما يمثل ذلك من تكاليف باهظة تثقل كاهل هؤلاء السكان الذين تئن الغالبية العظمى منهم تحت وطأة فقر مدقع، وكيف لا وهي مقاطعة من مقاطعات مثلث الفقر.
التعليم في المقاطعة بدوره ليس أوفر حظا من الصحة والطرق، فالتعليم يشهدُ تدهوراً كارثياً في مقاطعة باركيول حيثُ يلاحظ الجميع الإهمال المدرسي المؤسف الذي تشرف عليه الإدارة الجهوية في تجاهل تام من المنتخبين المحليين وتهربهم من مسؤولياتهم المهنية والوطنية والأخلاقية والدينية، وظلم فاضح لأجيال المستقبل في التمتُع بحقهم الطبيعي للولوج إلى خدمات التعليم كغيرهم في أنحاء الوطن الكبير !
نقص وضعف في الكادر التعليمي، يوازيهِ نقص حاد في البنية التحتية التعليمية، هذا الحال نجم عنه تقلص أعداد الناجحين في المسابقات الوطنية وهو ما أدى بكثير من أبناء المقاطعة إلى أن يطالهم داء التسرب المدرسي فلم يكن أمامهم سوى ترك الدراسة للبحث عن أقواتهم، ولكم أن تخالوا حجم هذا الإهمال المدرسي وتباعه المستقبلية من استنزاف كبير للعمر البشري وإنحراف لعالم الجريمة وزيادة في الإحتقان الإقتصادي الذي تعيشه منطقة مثلث الفقر.
الزراعة في مقاطعة باركيول تعاني بدورها من مشاكل جمة لعلَّ من أهمها انعدام السدود من ما يحول دون استغلال مياه الأمطار بالإضافة إلى انعدام السياج الذي يعمل على حماية الحقول من الدواب السائبة وانعدام البذور وآليات الإستصلاح الزراعي، وجميع هذه المشاكل تم طرحها على الجهات المعنية متعهدة بحلها وما زالت نفس المشاكل على ما كانت عليه. وعن الماء الصالح للشرب حدث ولا حرج، ففترات الصيف والعطش الذي يحل بالساكنة ومواشيهم كفيلة بإعطاء صورة واضحة عن الحالة التي يرثى لها لواقع عصب الحياة في المقاطعة، ولم تستفد الساكنة حتى الآن من مشروع "سد فم لكليته" الضخم رغم حجم الغلاف المالي الكبير الذي رُصِدَ له، حيث بقي العطش لمقاطعة باركيول هو سيد الموقف بفعلِ إنعدام الإشراف والرقابة على هذا المشروع.
وأمامَ هذه المعطيات ونظراً للحالة الإجتماعية الهشة التي يعيشها جزء كبير من ساكنة مثلث الفقر، فقد كان لهذا الوضع الكارثي الأثر البالغ في جعل هذه الساكنة تقبع في عزلة تامة فاقمتها صعوبة الظروف المعيشية والظروف الاقتصادية السيئة، بحكم أن جُلَّ الساكنة يعتمدون في عيشهم على الثروة الحيوانية والزراعية المتواضعة والتي ما فتئت ضربات الجفاف تغزوها إلى أن وضعت الكثير من السكان دون مستوى خط الفقر، في ما بقي البعض يكافح من أجل البقاء في معركة حياة يومية تزداد تعقيداتها يوما بعد يوم.
إن مقاطعة باركيول -رغم عمق المعاناة- لا تزالُ تدعم وتنتظرُ برنامج فخامة رئيس الجمهوية الذي عرضهُ عليهم مُعبراً فيهِ عن إرادة سياسية جادَّة لدعم ساكنة مثلث الفقر، وفهمٍ دقيق لما يتطلبهُ تعزيزُ التنمية في منطقة مثلث الفقر، كما لا تزال ساكنة "مثلث الأمل" تحافظ على نفس منسوب الأمل الذي عُهدت به، وتعلق بذلك أملاً كبيراً على مخرجات برنامج "تعهداتي التنموي" لتحقيق قيمة مضافة في منطقة قاست كثيرا بفعل تراكم فشل السياسات التنموية في العقود الماضية، وهو فشل لم يعد مستساغاً في ظلِّ تفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الداخلية، والتحديات الأمنية الإقليمية الخارجية. يتواصل..
غالي ولد العبقري، باحث دكتوراة بجامعة تونس المنار .