من أين أبدأ وكيف أنثر عبرتي وهل تغني الكتابة وقد جرى القلم وطمّت الفاجعة، وفارقَنا منارُ العلم ورمز التواضع ومجمع الفضائل الشيخ القاضي محمد المصطفى (تتّال) ولد أحمدو ولد محمد عبدي تاركاً حزناً عميقاً وألماً في كل قلب.
ليلةٌ بهمِّ عامٍ مكثت طويلاً، لا على أنجال الفقيد الكرام وذويه الأقربين فحسب، وليس أقربَ منّا إليه ولا منه إلينا، بل على كل من عرف الفقيد أو صحبه أو جالسه أو تلقى العلم سلسلاً سلسبيلاً على يديه أو صلّى خلفه وتعلم من سكينته.
كثيرون قاسَوْا مثلي ليلة البارحة، منهم والدي الأستاذ المصطفى ابن بيه، حفظه الله، وقد ضاعف أرقي ما بلغني من تأثره الشديد لنعْيِ الفقيد إذ كان من خاصته وأهل ودّه، وأعرف الألفة العجيبة بينهما، ومنهم خالي القاضي عبدالله ابن اعل سالم، حفظه الله، وقد كان رفيق درب المرحوم في القضاء وسميره أيام الطلب ولياليه العصيبة، وأذكر كيف كان يسترسل في الحديث عن مناقب الفقيد وصبره على الطلب، حيث ينفَدُ الزادُ ويُلقي الطلابُ الأُزُرَ ويتركون الألواح، فلا يبقى غيرهما مُرابطيْن عند لمرابط عبدالرحمن ابن سيدي عالي الهاشمي، في مناطق "اتفيتَناتْ وحْسي الطين وآمرش"، رغم بعد الشقة وشغف العيش.
تُرى من نعزي فيه أولاً؟ هل الدولةَ التي منَحَها ريعان شبابه وتنقّل بين مقاطعاتها قاضياً، فاصلاً في نوازل القضاء وشائكات المسائل، وتدرَّج في المناصب حتى نال رتبة "الشرفية" لأول مرة في تاريخ الوطن، ثم خدمها من خلال رابطة العلماء أمينا عاما في ولاية لعصابة.. أم القبيلةَ التي شرّفها ورفع اسمها في كل محفل يُذكر فتذكر فيه.. أم أجيالاً عريضة من أبناء الوطن نهلت من علمه وتخرجت على يديه علماء وقضاة وأساتذة ومسؤولين.. أم السياسة التي حظيت بقليل من وقته، ولم تجد مكاناً في قلبه، فلم ينَلْ من حطامها ولم تغضَّ من قدره، وقد جمّل صورتَها بجمال خصاله. ماذا سأكتب عن الرجل "العالم، القاضي، المربي، الورع، الزاهد"؟ وماذا عن الرجل "الإنسان"؟.. حيث يبقى المجاز في وصفه حقيقة وتبدو الحقيقة في كُنهِها أقرب إلى الخيال.. كان تعامله الشخصي وسَمْتُه في مجالسنا العامة والخاصة مدرسة أخرى تعلمنا منها كيف يجتمع التواضع والمهابة، وكيف تَحفظُ مكانةَ العلم وتصون مقامَه، وتبذلُ في ذات الوقت المودة والعطف وتقول للناس حسنا..
ما أجدره بقول ذي الرمة: مِن آلِ أَبي موسى تَرى الناسَ حَولَهُ ** كَأَنَّهمُ الكِروانُ أَبصَرْنَ بازيا
مُرِمّينَ مِن لَيثٍ عليه مَهابَةٌ ** تَفادَى الأُسودُ الغُلْبُ مِنهُ تفادِيا
فَلا الفُحْشَ مِنهُ يَرهَبونَ وَلا الخَنا ** عَلَيهِم، وَلَكِن هَيْبَةً هِيَ ما هِيا !!
تميّز في الفتوى بحذاقة متفردة، لعله اكتسبها من ممارسة القضاء، فكان إذا اجتمع أهل العلم يُحمِّلهم عِبءَ فتواه وُيمرِّرُها على ألسنتهم دون أن يتحمل عهدتها؛ فكان يطرح "مسألة عارف" ويسوق أدلة ما يرمي إليه، فينبري غيره للفتوى، ويخرج هو بالسلامة والغنيمة..
رحم الله الفقيد وتقبّله في الصالحين، وبارك في خلفه الكريم وأجَرَهم في مصابهم.. آمين.
محمد محفوظ المصطفى بيّه
موظف بوزارة العدل - أبوظبي