كثيرا ما يتم الحديث عن الانفصام الحاصل بين التنظير والتطبيق، و هو انفصام يجعل المتلقي ينظر إلى المفكر مهما علا شأنه و زان طرحه بكل ريبة و شك. و لعل ذلك يعود إلى نكوص السياسي لعهده و خلفه لوعده .
لم لا ..! و السياسي هو المتصدر للشأن العام و هو المفوه الذي يملؤ الساحات الإعلامية و الفضاءات الثقافبة بكل ما يخطر بباله من أفكار طوباوية و أخرى مثالية حد الخيال؛ فيحجر بذلك على ذوي النهى و الفكر بين دفتي كتاب.
و مع تطور وسائل التواصل الاجتماعي و قوة تأثيرها صار التنظير سمة غالبة جعلت كل مجدف في العالم الافتراضي من غير العارفين يغرف من الزبد و يقدمه في طبق من ذهب .
و ليس التنظير في حد ذاته عجزا و لا ديماغوجية بقدر ما هو درجة عالية من الوعي تطرح أفكارا مفيدة، تضيء الدرب و تكشف مكامن الخلل من خلال البحث والتحليل.
فهو تنوير و إرشاد حين يتسم بوضوح الرؤية و منطقية الأفكار و حين يقدم الحلول بعيدا عن نكء الجراح بين المجتمعات ذات التوجهات و الإثنيات المتعددة .. و هو وبال و تخريب حين يعبث بالثوابت الوطنية و يتحرر من القيود الدينية و الأخلاقية.
لذا يجب على كل من ينظر لأجل نهضة المجتمع و تقدمه أن ينطلق من الواقع و ما يمتلكه البلد من مقدرات مادية و بشرية كفيلة بترجمة الأقوال إلى أفعال حتى لا يحصل التناقض الذي يؤدي بالمتلقي إلى الإحباط و تفنيد أو تسفيه كل تنظير و تفكير .
أما التطبيق فهو ترجمة الأفكار المستنيرة إلى واقع ملموس يعطي نتائج إيجابية تنعكس على حياة المجتمع اقتصاديا و ثقافيا و علميا ... و هو الخطوة المنتظرة بعد التنظير .. إنه الجزء المكمل له .. فعلاقته به كعلاقة الخبر بالمبتدأ حيث يستحيل أن تحصل الفائدة من دونه؛ كذلك التنظير من دون التطبيق هو حبر على ورق و أفكار في مهب الريح.
فالتطبيق لا يتأتى إلا لأفكار قابلة للحياة تنطلق من الواقع و تهدف إلى الإصلاح و التطوير، لا إلى الاستعراض و حب الظهور .
كما أن محاولة تنفيذ الأفكار قبل نضجها، و قبل أن تشبع بالبحث و التحليل و الدراسة يعرضها للموت في مهدها.
لذا فإن ثنائية التنظير و التطبيق هي في الدرجة الأولى عملية تكاملية فيها خلاص المجتمع من أمراضه المتشعبة التي تعيق التنمية، و تقف حجر عثرة في سبيل الإصلاح و الازدهار.
إن وجود من ينظر بفكر راشد و منطق سليم .. ينطلق من الواقع و يخطط للمستقبل بكل ثقة و طموح، و من تدفعه الإرادة و العزيمة إلى تطبيق ما جاء به التنظير حرفيا لكفيل بخلق تنمية حقيقية و مصالحة مع الذات و بتجديد الإيمان بقدرة الإنسان على الخلق و الإبداع .