بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على النبي الكريم
تأبين للوالدة امنيحة بنت أحمدو بن أهل آبه رحمها الله انتقلت يوم الحج الأكبر أفضل أيام الدنيا إلى أعلى الجنان، وإلى رب غير غضبان، أمنا الفاضلة العابدة، التقية الزاهدة، من أفنت عمرها في طاعة الرحمن والسعي للآخرة، فكم علمت من جاهل، وكم لبت من سائل، وكم وصلت من الأرحام، وكم أطالت السجود والقيام، وكم أكثرت من الصيام، حتى في هذا العام الذي تجاوز فيه عمرها - بفضل الله - التسعين، جعلها الله من الآمنين، وإلى وجهه الكريم من الناظرين.
نشهد - ولا نزكي على الله أحدا - لوالدتنا الكريمة بكثير من الخير، تقبل الله منها صالح الأعمال، فقد دأبت منذ صغرها على عبادة الرحمن، فلا تراها إلا قارئة، أو ذاكرة، أو مصلية، أو مشتغلة بما يرضى ربها، لا تعرفها مجالس القيل والقال، وإذا تحدث بعض الجالسين في مجلسها بما فيه إثم؛ تأثرت وأنكرت ووعظت، وربما سدت أذنيها بأصابعها مخافة أن تسمع ما فيه إثم. وقد أنشد فيها الوالد رحمه الله بيت حسان بن ثابت الذي أنشده في أم المؤمنين عائشة رضي الله عنهما:
حصان رزان ما تزن بريبة ** وتصبح غرثى من لحوم الغوافل كانت رحمها الله كثيرة القراءة للقرآن الكريم، من مصحفها الذي لا تستطيع مفارقته ولو للحظة، وقد حدثتني رحمها الله مرات أنها إذا نظرت إلى الحيطان أو إلى الأشجار أو إلى التراب رأت حروف المصحف ماثلة أمام عينيها، وأنها تسير في الطريق بتحفظ مخافة أن تقع رجلها على كتاب الله، ولعل ذلك من شدة ملازمتها النظر في المصحف، تقبل الله منها.
وقد كانت رحمها الله ممن يحسن أداء الصلاة على الوجه المطلوب شرعا، ولقد نظر إليها العلامة أحمدو بن النونة وهي تصلي فقال لو كانت هذه المرأة رجلا حرصت على الصلاة وراءها فإنها تصلي الصلاة كما أمرت، وكانت رحمها الله وتقبل منها حريصة على أن نتعلم؛ فتتولى المشاق من أجل ألا تتعطل دراستنا وتحضنا على التعلم كثيرا، وكانت رحمها الله سليمة الصدر تحب الخير لجميع المسلمين، وتدعو لهم، لا تحمل غلا لأي مؤمن، طيبة السر والسريرة، يقرأ ذلك بوضوح على قسمات وجهها الذي يشع نورا.
محيا المرء أصدق ترجمان ** على كنه المغيب في الفؤاد
حجت رحمها الله رغم قلة ذات اليد عدة مرات، واعتمرت عدة عمر، وقد من الله علي فله الحمد وله الشكر بمرافقتها في حجة من تلك الحجات، وعمرة من تلك العمر فكانت تنسى ضعفها وما تشكو إذا تجهزنا للسفر وتنشط وتتأثر إذا رأت المشاعر، أو سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت كثيرة العطف والحنان، على الأهل والجيران وطلاب العلم، تخرج لي النقود من جيبها، وتقول لي انظر لي لعل أحدا من الطلاب ينقصه شيء، وتلح علي في ذلك رحمها الله. وكانت رحمها الله إذا نزلت بها مصيبة تصبر أجمل الصبر وتحتسب، فقد جهزت ابنها محمد بن محمد فضل الله وشجعته على الغربة لطلب العلم، ومكث سنين في ذلك، فلما تضلع من العلوم ووجد ضالته، وأمنية والدته؛ قرر زيارتها، فبينما هي تستعد لرؤيته بعد طول انقطاع؛ إذ وصلها بشكل مفاجئ أنه توفي في طريقه إليها في حادث سير، فارتج الحي بكاء وحزنا، فلم تزد هي على أن دخلت في الصلاة، وصبرت - تقبل منها - صبرا جميلا.
ومن المبشرات أن شريفة فاضلة رأت في منامها بعد ذلك بيتا غاية في حسن الشكل والتأثيث وطيب الرائحة، فسألت عنه؟ فقيل لها: هذا بيت من بيوتات الجنة أعده الله لامنيحة بنت أحمدو جزاء لها على صبرها ولدها محمدو.
وكانت رحمها الله وتقبل منها صاحبة مراءصادقة وعجيبة، التفتت إلي ذات يوم إبان مجيئنا لكيفة وقالت لي يا بني أبشر فسيجعل الله بعد هذا الضيق فرجا، وبعد هذا العسر يسرا، رأيت رؤيا خير إن شاء ربي، بينما أنا جالسة ولا يمكن أن أقول لك أني مستيقظة إذا بشخص يقول لي السلام عليكم فرددت عليه السلام، فقال لي هل عرفتني فقلت له لا، فقال لي أنا ملك الموت ولكن اطمئني فإنما جئتكم مسلما لا قابضا، فقد أخبرتنا فلانة بنت فلان وهي امرأة صالحة توفيت منذ زمان طويل أنك صرت هنا مع أخوالك الشرفاء، وهى تسأل عن خبرك، وختم لها أنا جئت مسلما عليكم وسأقبض روحا هنا وأشار لها إلى جهة غربي المنزل، فتوفي في ذلك اليوم رجل رحمه الله من الجيران ما كان يشعر بمرض.
ولا يفوتني في هذا المقام أن أنوه وأشيد بالشرفاء الكرام آل الشريف أحمد الولي، فقد غمروها بإحسانهم وعطفهم وتوقيرهم وحسن صحبتهم، حتى أنسوها أهلها ووطنها، وأصبحت لا يطيب لها المقام إلا بينهم، وداموا على ذلك حتى ودعوها أحسن وداع في مشهد مهيب مملوء صدق عاطفة وحزنا على فراقها، فكانوا أشد حزنا وتأثرا من فراقها منا، تولى الله جزاءهم، وأجاب دعاءهم، وحقق رجاءهم، وعمرهم وكثرهم، ورفع قدرهم، وأبقى ذلك الفضل والنور فيهم إلى يوم القيامة.
وحدثتني ذات مرة أنها رأت امرأة في منامها فقالت لها أنا ميمونة آخر زوجة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت لها أرني مكانا من جسدك مسه رسول الله صلى الله عليه وسلم أتبرك منه، فقالت لها لم يبق موضع من جسدي إلا مسه، فأقبلت عليها تقبلها وتتبرك منها.
وحدثتني قبل موتها رحمها الله بأنها رأت رؤيا تعجبت منها رأت أنها على سرير في السماء وجعلت تنظر أسفل السرير فلا ترى تحته ما يمنعه من السقوط وتنظر أعلاه فلا تراه معلقا في شيء يمنعه من السقوط، وهي مع ذلك مطمئنة وغير خائفة، فقالت لي لا أدري لعله دنو الأجل، ولكنه خير إن شاء ربي، ومن الغريب أننا حملنا نعشها على سرير، ولم أتذكر الرؤيا إلا بعد ذلك. نسأل الله عز وجل أن يرحمها ويغفر لها، ويجعلها مع النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين، وأن يجعل قبرها روضة من رياض الجنة، وأن يجمعنا معها في الفردوس الأعلى من الجنة.
إبراهيم بن محمد فضل الله بن أهل أيد