ما زالت كلمة الإصلاح تتابع حلقاتها محاولة توضيح الطريق الإسلامي الوسطي الذي لا شية فيه، والطريق الوسطي الذي لا شية فيه يكون عندما تستند دلالته علي الآيات المحكمات وأحاديث الرسول صلي الله عليه وسلم وليس شرطا أن يصدر من أعلم العلماء إلا إذا جاء هذا العالم بالدليل من القرآن والسنة إلي مكان المحاكمة.
ولكن أنا هنا في هذه الحلقة أود توضيح الطريق التي في نظري ذهب فيها واحد من أكبر علماء الدنيا وجعله الله من موريتانيا نفتخر به وندعو له بطول العمر والعافية الدائمة من الله جل جلاله ألا وهو العلامة عبد الله بن بي حفظه الله كما حفظ القرآن للمسلمين.
هذا العالم الجليل قرأت له عناوين كتب في الموضوع منهم ( الارهاب والمحاورة عن بعد ) إلي آخره.
فمن جهة العلم وجدته يستوعب كل فن من فنون العلم في الدنيا تفسيرا وحديثا وعربية وأًصولا وفقها وتاريخا وفلسفة إسلامية وغيرها، إلي آخر علوم الدنيا لم يترك منها شاردة ولا واردة إلا وقلبه جعله وعاءا لها فتبارك الله أحسن الخالقين.
وفي هذه الكتب ذكر الطريق الإسلامي الوسطي، وبما أنه كتبه إلي جانب دعوي المتشددين ممن لا يرون الإسلام إلا سيفا مصلتا أمام البشر، فانشغل هو بالرد عليهم بالإسلام المنزوع السلاح كلا في الدنيا وجعل مقابل ذلك أن الإسلام في يده "جزرة" يمدها دائما لغيره مهما كان سلوكه.
أما الحركات الأخري التي يخاطبها هو ضمنيا من أرض العدو الأمريكي والأوربي فقد عكست كل هذه الطريقة وذهبت إلي أن الإسلام كله سيف وطاحونة صماء بكماء لا تعرف إلا بعضا من أوامر الإسلام وكل من حاد عنه فالسيف والطاحونة الجاهزة هي مآله، حتي أن جهادهم الذي يزعمون جعلوا أكثره أو كله فيمن حرم الله إيذاءه ولاسيما قتله وهو المسلم المؤمن بالشهادتين مهما كان ضعف دينه والذمي أو المستأمن في دخول أرض المسلمين.
وبين ذاك وهذا يدرك المسلم أن الطريق الوسطي التي لا شية فيها هي ما في القرآن من مكان استعمال السيف ومكان استعمال "الجزرة" وهذا موضح في القرآن والسنة أكمل توضيح، وكثير جدا غير أن الطريقتين أعلاه لم يذكرا إلا مكان حجتهما من الإسلام.
إلا أنني أظن أن السبب في الاتجاهين هو ما يلي :
أولا : فاتجاه العلامة أعلنه فوق أرض الخصم "الأمم المتحدة" وهو معدود علي الاتجاه الإسلامي بصفة عامة، وكان في موقف لا يناسب عنده فيه إلا ذكر "جزرة " الإسلام بدل سيفه نتيجة مكان إقامته فهو الآن في مكان موبوء دينيا بكراهته للمسلمين وحبه لأعدائهم إلا إذا بعث الله زايدا جديدا أسكنه الله فسيح جناته أو هدي الله أولاده وما ذلك علي الله بعزيز.
ثانيا : أما الجانب الآخر فقد بدأ ما يسميه جهاده بقضية افغانستان وجهادهم ضد الشيوعيين أعداء الله ورسوله، وقد استجابوا هم في ذلك الجهاد لقوله تعالي ((وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر)) ولا شك أن من جاهد في الله حق جهاده الذي أذن فيه الشرع وقرأ ما أعد الله للمجاهدين بعد استشهادهم فستصبح الدنيا عنده مكان سجن عن الوصول إلي ما عند الله، وفي كلمات الصحبي أمام النبي صلي الله عليه وسلم في قضية طول أكل تمرات في يده تحول بينه وبين الشهادة دليل علي ذلك الذوق السليم.
وبعد انتهاء حرب آفغانستان مع الروس انبعثت القاعدة بقيادة أسامة بن لادن – رحمه الله وأنزله مع أعلي منازل الشهداء – فوجد أن فلسطين هي الأخرى تحتاج الجهاد فلم يجد بإزائها إلا عرب الدنيا منزوعين عن كل غيرة علي الإسلام أو النخوة العربية، وإنما هم غثاء كغثاء السيل كما يقال مثل أحجار المرحاض من عظيمهم إلي سوقهم، فارتأوا أن مثل هؤلاء يجب فيهم الجهاد، ولم يراجعوا الفكرة إسلاميا ليجدوا أن وعيد الله للمسلمين العصاة محيط بهم ولكن يوم القيامة، ولكن الشيطان المتحمس دائما لسلوك المسلم لغير الصراط المستقيم وجد هذه الفكرة المنحرفة في قلوبهم فأذكاها لأن جذوتها أحب إليه من جذوة الكفر البواح لأن أهلها يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
وبعد هذه المقدمة الموجزة أصل إلي بداية السلم الأولي من العلم التي لا يتجاوزها مثلي أنا وهي في الطابق الأرضي من العلم لأقول من فوقها أنه من المعلوم أن الله خلق بني آدم كلهم للعبادة لأن النفي والاستثناء في كلام العرب للحصر، وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون، إلا أن إرادته أزليا تعلم أن أكثر هذا الإنسان سوف لا يستجيب ويكفر بالبديهيات من أوامر الله، فخلقهم أزليا ليكونوا حطبا للنار ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس إلي آخر الآية، ولكن في الدنيا خلقهم في أحسن تقويم في الشكل ومكرمين علي غيرهم بتسهيل أنواع الحياة لهم جميعا، مؤمنهم وكافرهم، ولكنه في الآخرة أرجع الكفار منهم إلي أسفل سافلين.
أما معاملتهم في الحياة الدنيا أي معاملة المؤمنين لهم تختلف عن بداية الإسلام عن ما بعد نشر الإسلام في جميع أنحاء الدنيا.
فمبدأ الإسلام بين فيه القرآن حقيقة الكافر التي لا تفارقه وهو أنه نجس، وبين أن من يدعي منهم أنه أهل كتاب أن هذه الدعوي باطلة وأن الدين عند الله هو الإسلام، وأمر بقتال هؤلاء حتى يعطوا الجزية استسلاما وهم صاغرون.
وفي أول الإسلام لا أمانة لهم إلا لمن جاء مستأمنا أو معاهدا، أما غير ذلك فلا كلام معه إلا بالسيف : يا أيها النبيء جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم إلي آخر الآيات، فمن رجع إلي أسماء الله الحسني يجدها تعبر عن ما عند الله للمؤمن والكافر وهو فرق كبير بين ( الغفار الحليم الرؤوف الرحيم ) أي مدلولاتها لا تشتبه مع مدلول ( العزيز المنتقم الجبار المتكبر ) إلي آخر دلالة أسماء الله الحسني وصفاته.
أما بعد هذه الدنيا فتلك القيمة عند الله للكافر والمنافق تظهر في قوله تعالي :يوم تقلب وجوههم في النار ،ويوم القيامة تري الذين كذبوا علي وجوههم مسودة، أفمن يمشي مكبا علي وجهه أهدي أمن يمشي سويا علي صراط مستقيم، وإله الآخرة هو إله الدنيا إلا أن الأولي للإنذار والأخرى للجزاء، بمعني حلمه علي الجميع في الدنيا يقابله غضبه المصحوب بالانتقام.، فمن قرأ مصير غير المسلمين في الآخرة فكيف يعطيهم حرمة أكثر من عدم ظلمهم في اشتراك الحياة الدنيا معهم من غير أي قيمة إنسانية، فمن لا يسمع كلام الله يقلبه ويبصر آياته بعينيه فحرمته كحرمة الدابة كل بحسب الأوامر في معاملته.
وملخص الطريق الوسطي بين هؤلاء وهؤلاء أن يحاول المصلح أو القاضي بين هؤلاء وأولئك أن يجمعهم بأي وسيلة علي مائدة واحدة، ويفهم الجانب الأوربي أن عليه أن يتوقف عن مد العدو الذي أكد الله عداوته إلي يوم القيامة وهو اليهود بالمال والسلاح، وأن يتوقفوا عن قتل عائلات المسلمين في عقر دارهم كما تفعل آمريكا بالقاعدة حتى الآن في اليمن وفي أي مكان فيه، ويكفوا عن إيذاء المسلمين المسالمين، وفي نفس الوقت يقول لهؤلاء أدعياء الجهاد يقول لهم مباشرة تعالوا نبحث بحثا إسلاميا عن الجهاد الإسلامي الآن، فعندئذ علي العلماء أن يصبوا العلم الصحيح صبا وأن يحسنوا المجادلة بالتي هي أحسن مع الجميع حتى يقنعوا المتطرفين بالرجوع إلي الإسلام الحق، وإلا فإن فتنة الله لنبيه داوود عليه السلام التي استغفر منها وخر راكعا سببها حكمه للخصم قبل أن يستمع للآخر، فبعد انتهاء حجة الأول قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلي نعاجه.
فكذلك العلماء إذا ذهبوا إلي أوربا وبينوا لهم محاسن الإسلام ساعة السلم، ولم يبينوا لهم سيف الإسلام ساعة الحرب يقول تعالي فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون، فإذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق إلي آخر ذلك من معاملة أهل الحرب سواء كان مباشرة أو بقوة من يعد يكون الإسلام الوسطي لم يتم.
فعلي كل مسلم سمع أن عائلة مسلمة أبيدت عن آخرها برجالها ونسائها وأطفالها وهي في رمال اليمن أو في أفغانستان أو الصومال فعليه أن يغضب لله أولا من الفاعلين وأي شيء بوسعه عليه أن يفعله غيرة للمسلمين، ولكن الله جعل للمحارب المسلم عذابا دنيويا في بلده الإسلامي فليتمثل الرؤساء بأقل درجة من الإسلام أي لا يفعلون الكفر البواح ويقيمون الحد علي أبنائهم المسلمين ولا يسلمونهم لعدو الجميع وعندئذ لكل مقام مقال.
وإلي الحلقة القادمة بإذن الله لنناقش إسلام الإسلاميين المدني كما يقولون.