"الجريمة ظاهرة إنسانية وتدل على الانحراف، لكنها ليست طبيعية ...ليس - وإن كان أصبح معتادا للأسف- من المقبول أن يسلب الإنسان أخاه الإنسان روحه أو ماله أو يعتدي على عرضه...إلخ - السؤال فيما يتعلق ببلدنا؛ هل نحن أصبحنا فيما يتعلق بالجريمة أمام ظاهرة ؟
أم لا يزال الأمر في حدود المألوف والمتوقع؛ في ظل مانشهده من عوامل التمدن الفوضوي، والانتقال من الريف للمدينة، ومن هبوب رياح العولمة في جوانبها السلبية، وما تجده أمامها وتركبه من ظواهر الفقر والجهل وتردي الوعي ؟
أم هل نحن أمام حالات معزولة وشاذة، لا يزال بالامكان احتوائها وتلافيها في الساعة والحين؟
الحقيقة أن الإنسان الموريتاني وكذا المجتمع - عموما- في موريتانيا لا يزال يشمئز من الجريمة بمختلف مستواياتها وأنواعها ؛ فالجريمة بهذا المعنى لم تتحول من حيث الكم إلى واقع مقبول أو مفهوم.
ومع ذلك فإن الجريمة تحدث وستبقى؛ ليس هذا هو المحبذ ولكنه الواقع للأسف الشديد ؛ وبالرغم من هذه البديهية غير السعيدة، والتي تنفي فرضية مجتمع بلا جريمة ، إلا أننا من خلال محاولة دراسة وفهم دوافع وأسباب الفعل الجرمي الصادم ( القتل / الحرابة / السرقة...) ؛ يمكننا أن نقلل من مستويات الجريمة إلى حد كبير ، بحيث تصبح شبه معدومة.
إن حزمة الإجراءات التي يمكن من خلالها مواجهة الجريمة في بلادنا، متنوعة ومتداخلة ومركبة إلى حد بعيد ؛ وفي نظري أن تركيز الرأي العام ، وكذا مختلف المعالجات، على الفعل الأمن الشرطي والفعل القضائي ( الجزائي) هو هام جدا، لكنه لا يعدو أن يظل معالجة للنتائج أكثر منه علاجا للأسباب. فعلى أهمية الإجراءات الردعية لما بعد وقوع الجريمة، فهي تظل إجراءات تكتيكية وآنية، أكثر منها استراتيجية ومستديمة.
يمكننا التفكير على نحو أكثر جذرية لاقتلاع الجريمة أو الحد منها، وجعل مجتمعنا شبه خال من دواع الفعل الإجرامي ، الذي هو فعل تترواح دوافعه من المرض العقلي والنفسي، إلى الخلل في التربية إلى الأوضاع الاجتماعية والانسانية المتفاقمة، إلى دوافع ذات طبيعة سياسية أحيانا... -لذا فإن أسلوب المواجهة - حتى لا يتسع الرقع على الراتق - تتطلب تعاونا وثيقا وتحالفا تنفيذيا ملموسا، بين قطاعات عمومية على رأسها المرافق التربوية والتعليمية والاجتماعية والحقوقية والقضائية والأمنية والإعلامية، وذلك لبناء تصور حقيقي وعميق لمعالجة هذه النابتة المتصاعدة. -ورغم أهمية البحث النظري المشترك؛ لصياغة الخطط والاستيراتيجات فإن إجراءات مستعجلة لا غنى عنها هي ضرورية؛ من قبيل
: 1- تفعيل الامكانات المادية واللوجستية والمعنوية للأمن وتواجده المرئي والمخفي لحماية المواطنين وممتلكاتهم.
2- إعادة النظر في هيكلة السجون الموريتانية، بحيث تهتم بالبعد الاصلاحي للمسجونين، من حيث التكوين النفسي( الدعم والمعالجة) والديني( الوعظ والارشاد) والتدريب على المهن والوظائف والتعليم.
3- التعاون مع الأسر التي يمثل واقعها بيئة ودافعا لانحراف الأبناء.
4- بناء مزيد من المراكز الاجتماعية والرياضية والترفيهية لاحتواء المراهقين والشباب.
5- تفعيل العقوبات القصوى على نحو ردعي وزجري؛ بما في ذلك القطع والقصاص ، وللمشرع والقضاء أن يعودوا بشكل تدريجي، إلى ما تتيحه كنوز الشريعة من التدرج والتخفيف إذا اقتضى الواقع ذلك.
في النهاية ما شهدناه من محاولة استعادة الفاعلية والمبادرة الأمنية، ونزول الرئيس والقادة العسكريين والأمنيين إلى الشارع، واجتماع مجلس الأمن الوطني، لبث وتدارس الطمأنينة العامة هام جدا، ونرجوا أن يستمر وأن لا يكون مؤقتا أو عرضيا، وأن تمتلك هذه الأجهزة القدرة على الفعل والمبادأة بدل ردة الفعل. والله الموفق وهو أعلم.
السعد بن عبدالله بن بيه / رئيس مركز مناعة الإقليمي لليقظة الاستراتيجية".