"أود في البداية أن أعبر عن كل امتناني وعرفاني بالجميل للأصدقاء الكثر الذين عزوني في وفاة من كان أكثر من أخ لي، الوزير جبريل ولد عبد الله.
عبر الاتصالات الهاتفية (الحصرية بفعل كوفيد) كنت أشعر كل مرة بدور الوسيط الذي أسند إلي في نقل هذه التعازي إلى أسرة هذا الفقيد الكبير.
أجل، إنني أقدر حق قدره هذا التشريف الممنوح لي بهذه المناسبة الأليمة والذي لا يعادله غير المسؤولية الملقاة على عاتقي من قبل الفقيد بأن أكشف بعد وفاته أسراره الشخصية التي باح بها لي خلال السنوات الأخيرة. وهذه الأسرار تتعلق ببعض التوضيحات حول الدور الذي لعبه في أحداث 1989 وما لها من تأثير في الحياة الوطنية.
لقد كنت فعلا في هذه الفترة، بفعل وظيفتي وبإرادته هو، الراعي الوحيد لأسراره في المجال العمومي. وقد كان يعتني بهذه التفاصيل التي يستحي من الحديث عنها شخصيا.
جبريل كان دائما يكرر علي أن الصمت وحده كبير، وأن الكلام مصدر لسوء التفاهم. ولهذا فإنه ترك هذه الدنيا دون أن يدلي بأي رأي حول الموضوع أو يبوح بأي سر من أسرار الدولة أو يرد على التهجمات أو الأحكام الجارحة في حقة. سأقوم باللازم كما وعدته بذلك.
وما أريد ذكره اليوم هو بعض الملاحظات الموجهة لأصحاب النفوس الكبيرة.
نعم، لقد مات جبريل فقيرا دون أن يشعر أحد، ولن تنشأ نزاعات بين ورثته أمام المحاكم لأنه لم يترك شيئا، لا دارا ولا أرضا ولا شركة. فجرد ممتلكاته يقتصر على سيارة هيلكس قديمة وثياب قديمة من القماش العادي.
لم تنعدم الفرص أمامه ولم يكن عديم البراعة. فمن منا يصدق، في هذا الزمن الفاسد أن قائدا سابقا للأركان ووزيرا سابقا للداخلية والتجهيز وواليا سابقا يوجد ميتا في غرفة من مكاتب أحد أصدقاء الطفولة؟
نعم، إن موت جبريل مر وفريد في آن واحد. إنه يذكر بموت أقطاب المتصوفة في الزمن الغابر.
لم تستقر زوجاته في السنوات الأخيرة لأن جناحيه الكبيرين يمنعانه من النزول إلى الأسفل ومن مد اليد إلى الغير ومن إظهار الضعف الذي ينال من القيمة.
إن صلابة بنيته الأدبية هي التي تثير الانبهار أكثر من غيرها؛ لقد كان ودودا، مبتسما كتوما، متسامحا، خيرا بلا حدود.
وخلف هذه الصورة يوجد عملاق صلب في عدالته وصرامته وشجاعته وتصميمه. هذه هي الخصال الشخصية التي صاغت منه رجل الدولة المعروف.
عندما اتصل بي ابنه أحمد هاتفيا وكان مضطربا ليقول لي أن أباه لم يستيقظ على الرغم من إلحاح الطفل طلبت منه ان يهدأ ويصف لي المشهد. أجابني بأنه متمدد على ظهره في وضعية هادئة تماما؛ فهمت أن الأمر قد قضي وأن جبريل مات على طريقة المتصوفة الذين لا يهتمون بأمور هذه الدنيا ولا بجمع ركامها."
رحم الله جبريل.
فاضيلي محمد الرايس