لم تعد القبيلة سوى محاولات كان يقوم بها الإنسان البدائي من أجل خلق تنظيمات اجتماعية تضمن له التواصل ، إلا أنها في البداية لم تتعدى على مجموعات أسرية ضيقة كانت مغلقة على نفسها تتبادل المنافع والعلاقات الاجتماعية المشتركة فيما بينها .
ومع تطور علاقات البشر وتنوع حاجاته بدأت تلك المحاولات تنمو وتتعزز مع الشعور السائد بضرورة ملائمة تلك التنظيمات الضيقة لما لها من سلبيات لم تعد قادرة على استيعاب وتسوية مختلف الأغراض والحاجات البشرية المتجددة مع التحولات والتناقضات السائدة إلى خلق إطار أكثر تنظيما وعقلانية لحل تلك التناقضات .
غير أن غريزتي حب المجد والسيطرة المتجذرين في النفس البشرية خلقا بيئة مليئة بالصراعاتٍ والعداواتٍ والحروب أهلكت الحرث والنسل بين شعوب العالم مما كان له كبير الأثر في بلادنا " بلاد السيبة " إبان مجيء الاستعمار الذي عمل على تجذير تلك الخلافات حتى يحكم قبضته على البلد .
في هذه الظروف وبهذه الأسباب تشكلت القبيلة في بلادنا خاصة خلال وبعد الاستعمار تاركا وراءه مجموعات قبلية تعيش في جاهلية عمياء تتناحر في ما بينها يأكل القوي منها الضعيف حتى ظلت بؤرة للنزاعات الطائفية باعتبارها بيئة خصبة ورسمية للتناقضات والصراعات العرقية والطائفية من أجل النفوذ وسحق الخصوم مستخدمة لذلك كلما أوتيت من وسائل للبطش والسطو و القتل والنهب وأخذ أموال الناس بغير حق فضلا عن استغلال البشر بكل أصناف الاستغلال المفرط في شكل مخالفات بشعة يقع ذلك كله بأوامر من شيخ القبيلة وبمباركة من فقهاء يطوعون شرع الله لما يخدم نزوات سيد تلك القبيلة مقابل مسالمتهم ، إذ لم تكن القبيلة كما ينبغي مصدرا للقيم الكريمة حيث تنبت الشهامة ، وتحتضن العفة ، وتربي الرجولة ، وتبعث الكرم ، وتلهم النخوة ، وتدفع إلى نجدة الملهوف وتقف بجانب الضعيف ، وتصون الأعراض ، وتصلح ذات البين ، وتحافظ على الجار في حضوره وغيبته ؟ .. بل أضحت منبعا للتعصب الأعمى ومصدرا لتزييف الدين وباعثا لإشاعة المحسوبية ومشجعا لأكل المال العام؟ تدافع عن" الأشرار" من الغشاشين والمزورين وسارقي أموال وقوت المواطنين..
كما كانت معقلا للميز العنصري والتفاوت الطبقي الذي يعتبر من آثار الجاهلية الأولى التي قضى عليه الإسلام وحذر من التفاخر بهما والتعامل على أساسهما ، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ الحجرات:13 ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله قد أذهب عنكم عُبِيَّة الجاهلية وفخرها بالآباء.... أنتم بنو آدم وآدم من تراب... رواه أبو داود وحسنه الألباني .
لم يتوقف سلطان القبيلة في بلدنا إلى هذا الحد ، بل ظلت حاضرة وبقوة في عصرنا الراهن في مركز القرار السياسي خاصة أثناء تشكيل الحكومات الرسمية مستغلة ضعف الإدارة وأنظمتها الرقابية وعجزها عن النهوض بأداء واجباتها تجاه مواطنيها ، حيث يتم مراعاة توزيع الحقائب تبعا لحضور قبيلة ما أو غيابها في معترك حزب الدولة ، بدلا من وضع الإطار المناسب في الوظيفة التي تناسبه ولم يكن هذا حال الجانب الرسمي وحده بل ظلت جل الحركات السياسية والأحزاب الوطنية تتعامل بنفس المنطق، حتى غدت القبيلة وكأنها دولة مصغرة لها دستورها و شعبها وشعارها وتاريخها وحدودها الجغرافية ، تمارس نفوذها في ذلك الحيز محتكرة خيراته ، تحمي منتسبيها "حمية الجاهلية "في شكل عصبية عمياء وكأننا مازلنا نعيش في الكهوف والمغارات .
من هذا المنطلق يجدر بنا إذا ما كنا جادين في بناء دولة تقوم على العدل والمساواة و تسعى ﺇلى مصلحة الفرد وخدمته وتحقيق مصالحه ، تحميه ، وتعطيه، وتعلمه، وتعدل بينه وبين غيره أن نحد من سلطة القبيلة المر الذي يستحيل تحقيقه قبل تفعيل دور الجمعيات والمنظمة والمؤسسات المدنية وعلى هذه الأخيرة هي الأخرى أن تتحمل مسؤولياتها في هذا الصدد وتبتعد كل البعد عن الصلة بالقبلية والحزبية وأن تكون منظمات مهنية تسعى لاسعاد المواطن و الدفاع عن حقوقه.
بهذا تحل سلطة الدولة محل القبيلة ومخلفاتها المناقضة لقيام دولة القانون ، وقبل أن يتحقق ذلك فلن تكون لدينا دولة بالمعنى الصحيح ، ولن نكون قادرين على العمل خارج ثقافة القبيلة التي يبدو أنها مازالت أقوى نفوذا وأشد تحكما خاصة في الوسط الإداري الذي لازالت تطبعه الزبونية إلى حد بعيد .