لقد استكانت الشعوب العربية ردحا من الزمن لأنظمة الإستبداد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، بعد أن انقضوا على السلطة إما بانقلابات عسكرية حكموا من خلالها الأمة بالحديد والنار وجثموا على صدورها على كره منها ومضض، وإما عبر التوريث السياسي حيث تسلم لهم مقاليد الحكم على طبق من ذهب بلا عناء ولا مشقة، وذلك في ظل اقتصاد مستقر وأمن مستتب وساحة وطنية خالية من أمواج السياسة وعواصف الفتن، وعلاقات إقليمية ودولية متميزة، ثم يمد الله في عمر أحدهم حتى ترتخي حواجبه ويحدودب ظهره، ثم يفشل في نهاية أمره فشلا ذريعا لا تخطئه العيون ولا تنكره العقول.
أما حكومات الربيع العربي فقد ورثت من سابقاتها عقودا من الفشل وحملت على كاهلها مهمة إصلاح ربع قرن من الفساد، بعد أن وصلت إلى سدة الحكم في ظل اقتصاد وطني منهار، وفلتان أمني وإعلام فوضوي، ومؤامرات داخلية وخارجية ذبحت من خلالها الحكومات بسكاكين سياسية وطعنت بخناجر أمنية ووخزت بإبر دبلوماسية عديدة.
وتزامنت هذه المؤامرات مع أخرى مماثلة -أخذت طابعا اقتصاديا- قام بها رجال أعمال مناوئين للحكومات الجديدة بإيعاز من فلول الأنظمة السابقة حيث وضعوا عصيهم في دواليب الإقتصاد عبر تهريب الأموال وإيقاف السيولة في الأسواق، بغية إيقاف التنمية وإفشال الحكومة، يساندهم على ذلك المجتمع الدولي الذي يحرك خيوط السياسة من بعيد ويماطل الحكومات في التوصل إلى اتفاق القرض المالي عبر صندوق النقد متذرعا بالمظاهرات والإغتيالات السياسية التي يدبرها الفلول المعارضون.
وفي المقابل يحاول بعض السياسيين التقليديين في المعارضة العلمانية أن يجعلوا من حكومات الثورة كبش فداء وترسا يتقون به المصاعب التي ستعترضها ثم يختطفون إنجازاتها بعد أن تجتاز العقبات وتحقق بعض الإصلاحات ليقوموا بدعاية كاذبة خاطئة يوهمون من خلالها الشعوب أنهم الذين أنقذوا البلاد من حافة الإنهيار الإقتصادي والفشل السياسي التي كانت على شفا جرف منه.
أضف إلى ذلك أن الشعوب التي استنشقت نسائم الحرية لتوها بعد أن كانت تعيش في كبت واضطهاد شديدين في عهد الطواغيت السابقين أساءت استغلال الحرية حين أتيحت لها، فأصيبت بهوس التظاهر وأحرجت حكوماتها بمطالب مرتفعة تحتاج إلى عصى سحرية وعمل خارق للعادة لتحقيقها.
إنه ليس من العدل والإنصاف أن يحكم بعض المثقفين والسياسيين - في خطوة استباقية منهم لا مبرر لها ولحاجة في نفوسهم- على حكومات الربيع العربي بالإخفاق في غضون ستة أشهر، ذلك أن النجاح لا يقاس بكثرة الإنجازات بقدرما يقاس بالتغلب على العوائق والصعوبات، خاصة إذا علمنا أن معظم الدراسات الغربية قامت مؤخرا بتوصيات لصناع القرار الغربيين في كيفية مواجهة الصحوة الإسلامية. وعلى سبيل المثال فقد قدم البروفيسور"دانيال بايبت" بحثا لمركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة هارفرد عنوانه: المسلمون المتعصبون وسياسة الولايات المتحدة" وكان من ضمن التوصيات التي قدمها:
استدراج الإسلاميين إلى الحكم حتى يقعوا في شراكه ثم العمل على إفشالهم بكل الوسائل حتى يتآكل جمهورهم وتمقتهم شعوبهم بعد أن يخيبوا آمالها.
عدم تقديم المساعدة للحكومات الإسلامية مع أن الإتصال ﺑﻬم مفيد في معرفتهم والإستماع لما عندهم، دون مدّ يد العون لهم.
وجوب نصرة الحكومات الحليفة للدول الغربية ونصحها بعدم التعامل مع الاسلاميين إذ أن مشاركتهم في الحكم ستؤدي إلى سياسة معادية للغرب.
ضرورة تخفيض الروابط الأمريكية المعلنة بالحكومات العربية والإسلامية، ولاسيما في البلدان التي توجد فيها حركات إسلامية قوية؛ لأن هذا يشكل خطراعلى تلك الحكومات الحليفة ويحرجها أمام شعوبها، وأن يقدم التعاون الخفى السرى النشط، بدل الروابط العلنية الواضحة.
يجب أن لا يقرر الإسلاميون وحدهم، طبيعة العلاقة الواجب إقامتها مع الغرب؛ بل على الغرب أن يحدد ويقرر هذه العلاقة، وليس سواه.