"إنما نأكل لنعيش لا نعيش لنأكل".
تلك كلمة باقية خلدها سجل التاريخ لصاحب فلسفة الطب الحكيم أبُقراط الذي يعتبر أول من اتخذ الصوم وسيلة لعلاج الجسم من الوهن والآفات. وبين من يعتبر الصوم ثقافة للدواء من الأمراض وتطهير البدن ومن يتخذه وسيلة للارتقاء بالجسد إلى حضرة الرب، تتفاوت الشعوب في نظرتها لماهيته حسب الثقافة والمعتقد الديني.
ولكشف اختلاف الناس في نظرتهم للابتعاد بالجسم عن الشهوات، جاءت المقال ليجيب على السؤالين : متى ظهر الصوم؟ ولماذا لجأت الحضارات والشعوب إليه؟
ويرجع المقال لآراء لفيف من الاجتماعيين والباحثين في التاريخ القديم، و متخصصين في الأديان المقارنة بالإضافة إلى علماء وقساوسة وأحبار
الصوم قديم قِدم الإنسان
يلاحظ الباحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة بين مختلف الشعوب.
وقد عرفت الحضارة الفرعونية ظاهرة الإمساك عن الطعام مدة شهر كامل من السنة كمعطى أساسي من مقومات الصحة، لأنهم كانوا يولون اهتماما خاصا لكل ما يزيد من مناعة الأجسام بالإضافة لحضور البعد الروحي المتصل بالآلهة، وكان للفراعنة يوم يعرف بالعيد الأكبر يخلدونه بعد انتهاء شهر القطيعة مع الطعام. ويزيد الرهبان على الصيام الذي تمارسه العامة، فيواصلون أسبوعا أو أكثر دون مشاركة في مراسيم العيد الأكبر.
وقد عرفت الحضارة الإغريقية عادة الصيام، نتيجة لسجالات أخرجت علاج الأمراض من دائرة التعاويذ إلى نظريات فلسفية تتجسد في معالجة الجسم والروح بالابتعاد عن الطعام فترة معينة.
وكان الإغريق لهم آلهة متعددة فيصومون لكل رب أياما.
ويعتبر الفلاسفة أكثر الناس فعلا لهذه الظاهرة. وقد نصح أبقراط المرضى باتخاذه وسيلة للدواء من الأمراض لأن فيه الصحة الجسدية والنفسية والفكرية.
وغير بعيد من نظرة الفلاسفة اليونانيين لفوائد القطيعة مع الطعام، تنظر الحضارة الهندية إليه نظرة تعطي للجانب الصحي أولوية، فيعتبرون أنه يمنحهم القوة والقدرة على المقاومة.
وتُصنِّفُ الحضارة البوذية الصوم بأنه هو جوهر التعبد، وقد اشتهر به بوذا وكان يقول "إذا أردت لروحك أن ترتقي فابتعد عن متعة الجسد"، وعلى الإنسان أن يمكث سبعة أيام في المعبد عندما يريد ممارسة شعيرة الارتقاء بالروح إلى المقامات العليا حسب معتقدهم.
ورغم أن الصوم موجود في الحضارات القديمة فإنه ليس هنالك زمان محدد لبداية نشوئه.
وتُقِرُّ النصوص_الإسلامية بقِدم هذه العبادة، حيث يؤكد القرآن الكريم ذلك بقوله "يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم"، لكن النص القرآني لا يحدد أول من كُتبت عليه هذه الفريضة.
ويتفق الباحثون والمؤرخون على أن الصوم ظاهرة متجذرة في الحضارات القديمة، وأن الأديان السامية أضفت عليها بعض المعاني السامية، بالإضافة لجملة من التصورات منها الثابت والمتغير.
ويقول الباحث في علم الأنثروبولوجيا الدكتور جمال بامي "الصوم لا يوجد تاريخ محدد لبداية ظهوره، لكن المعلومات المتوفرة تشير إلى أنه ظهر مع وجود الإنسان".
الصوم في الأديان تتقارب الأديان الإسلامية واليهودية والمسيحية في الإقرار بعبادة الصوم وتصنيفه وسيلة للتقرب إلى الله عز وجل، واتخاذه مطية للترفع عن شهوات الجسد من أجل الرقي بالروح إلى ذروة الإيمان، لكنها تختلف في ماهيته وحقيقته وكيفيته.
عند اليهود يَعتبر اليهود أن ممارسة الطقوس الدينية المتعلقة بالصوم بدأت أيام نبي الله موسى عليه السلام، وفي التوراة يوجد يوم مخصص للامتناع عن الطعام والاشتغال بالصلوات وهو العاشر من أكتوبر/تشرين الأول الذي يسمونه اليوم الأكبر. وقد أكد الحاخام فيليب حداد أن التقاليد اليهودية تعتبر أن صوم يوم في السنة يكفر الذنوب، وأن هنالك أنواعا أخرى من هذه الشعيرة، ولكن المخلَّد منها هو اليوم الأكبر الذي يبدأ من غروب الشمس ليلا حتى انتهاء يوم تلك الليلة.
عند المسيحيين يَعتبر المسيحيون أن الصوم وصية إلهية ينبغي التقيد بها، ويقوم به الإنسان عندما تكون له رغبة في التقرب من الله، ولا يعني الانقطاع الكامل عن الطعام طيلة النهار، وإنما تجنب اللحوم ومشتقات الحليب.
وعلى من شعر بالحاجة للغذاء أن يتناول الأعشاب وقوت الفقراء الذي يجعل الإنسان يشعر بحاجة الآخرين فيزيد ذلك من تواضعه.
ويقسم المسيحيون شعيرة الصيام إلى أربعة أنواع، صوم الحَواريين والكاريم وكلاهما في شهر يونيو/حزيران، والعذراء في شهر أغسطس/آب، وإمساك قبل الاحتفالات المخلدة لعيد الميلاد. لكن هذه الأنواع اختفت من ثقافة أتباع المسيحية بفعل المذهب الكاثوليكي الذي يخلد صوم الكاريم فقط.
وحسب القس فادي المير فإن الصوم عند المسيحيين يعد مناسبة فرح لأن الإنسان فيه ينتصر على الشهوات والخطيئة.
عند المسلمين
يُعتبر المسلمون أكثر الشعوب أداء لعبادة الصوم في الوقت الراهن، ولا تزال طقوسه حاضرة يتبعها المسلمون منذ أن فُرِضَ عليهم أيام الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، وله فترة محددة بشهر كامل.
ويُقَسِّمُ العالِم الإمام أبو حامد الغزالي الصوم إلى مراتب متنوعة بين العامة والخاصة وخاصة الخاصة، وكل مقام له رواد يصلون إلى ذروته حسب ملامسة العبادة لأرواحهم.
غاية البشر أثبتت النصوص الدينية والكتابات التاريخية أن ظاهرة الصوم متجذرة في الحضارات القديمة منذ أن عرف الإنسان للحياة سبيلا.
ويعتقد اليهود أن غاية الإمساك عن شهوة الطعام تجسيد للعلاقة بين الذات والله وذوي القربى. وتتجلى حاجته عند المسيحيين في أنه سمو للإنسان بجسده إلى خالقه، ويساعد على مصالحة الإنسان مع إخوته لأنه يشعر معهم بالتعب والحاجة.
ويتميز الإسلام بأنه يَعتبر المقصد الأساسي للصوم هو التقوى كما يقول القرآن الكريم "لعلكم تتقون"، لأن اتقاء الخالق يترتب عليه تغيير في السلوك النفسي والاجتماعي.
وينْظُر الإسلام لهذه العبادة على أنها عمل متصل بالله عز وجل، كما في الحديث القدسي "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي".
وفي نصوص الدين الإسلامي تُعتبر هذه العبادة وسيلة للنجاة من الجحيم كما في الحديث الشريف "الصوم جُنة من النار".
واستنادا لمعتقدات الشعوب المختلفة وحضاراتهم المتباينة يُصنف الصوم على أنه قيمة إنسانية وكونية ينتزع القوة من الضعف، ويرسم معانٍ من التواضع والتعاطف، فتعيش منه الشعوب الدواء والعطاء والارتقاء...