مثل تحرير مدن الشمال المالي من سيطرة الجماعات المسلحة حدثا مفرحا تباشر به الماليون، و العالم جميعا. لكن الأيام ما لبثت أن كشفت عما رافق الحملة العسكرية من انتهاكات لحقوق الإنسان، تورط فيها الجيش المالي، و ترقى إلى درجة جرائم الحرب. فقد أراد الجيش المالي، الذي تعرض لهزيمة نكراء مشينة أن ينتقم من أبناء الشعب المالي الذي جاء لتحريرهم، واستنجد بالمجتمع الدولي لمساعدته على تحقيق ذلك!
لقد أوردت وكالات الأنباء الدولية، بناء على شهادات موثقة، حالات عديدة لإعدامات جماعية، ميدانية لأشخاص ذنبهم الوحيد هو لون بشرتهم وانتماؤهم للعرب، أو الطوارق، وأحرقت بيوت، ونهبت محلات مجموعات العرب والطوارق تحت سمع وبصر الجيش المالي دون أن يحرك ساكنا! ويروي اللاجئون الماليون، الذين تمكنوا من اللجوء إلى البلدان المجاورة صورا من المعاناة التي قاسوها ترقى إلى درجة التطهير العرقي! ولم يسلم بعض مواطني الدول المجاورة لمالي من هذه الانتهاكات بسبب لون بشرتهم فنهبت متاجرهم، ومؤسساتهم، وتعرضت حياتهم للخطر.
تعلق هذه الانتهاكات الجسيمة على مشجب تعاطف الذين تعرضوا للتصفية الجسدية مع الجماعات المسلحة! وفي بعض الأحيان يتم تجاوز هذه التبريرات الواهية إلى التصريح بأن العرب والطوارق كلهم ينتمون إلى الجماعات المسلحة المتطرفة! هنا يظهر التضليل، ويكمن الخطر. فاستغلال الأحداث المأساوية في الشمال لتصفي الدولة المالية حسابات قديمة مع بعض مكونات شعبها، الذين طالما اتهموها بالتمييز ضدهم لن يسهم في استعادة مالي لوحدة أراضيها، التي عجز جيشها عن المحافظة عليها، ولا في قيام سلم اجتماعي لم تستطع الحكومات المالية المتعاقبة المحافظة عليه بشكل دائم.
فليس صحيحا أن الجماعات المسلحة مكونة من عرب وطوارق فقط، وإنما تضم في صفوفها زنوجا ماليين، ومن جنسيات إفريقية أخرى. ومن ثم فإن الانتقام من العرب والطوارق فعل عنصري يظهر عدم أهلية الجيش المالي للانتشار في مناطق العرب والطوارق في الشمال ما دام يعتبرهم كلهم أعداء. من هنا جاءت بعض الدعوات الملحة لإرسال قوة حفظ سلام دولية تنتشر في شمال مالي لتحمي ساكنته من المجموعات المتطرفة، ومن الجيش المالي الذي فقد صفته الجمهورية، وأصبح طرفا في نزاع يأخذ طابعا عرقيا أكثر فأكثر.
من المؤسف حقا أن مواطنين ماليين في منطقة كيدال أعلنوا ترحيبهم بانتشار الجيش الفرنسي في مناطقهم، ورفضهم التام لدخول الجيش المالي إلى تلك المناطق، وذهب بعضهم إلى التهديد برفع السلاح في وجه الجيش المالي! فما الذي يدفع مواطنين إلى الثقة في جيش أجنبي، وفقدانها في الجيش الوطني؟ يجيبنا التاريخ المعاصر لقيام الدولة المالية على هذا السؤال. فقد عرفت منطقة أزواد حركات تمرد ضد الحكومة المركزية، منذ استقلال مالي. واستمرت الدولة المالية في تقديم استجابة واحدة على مطامح سكان الإقليم تمثلت في إعلان الحرب عليهم. حرب رافقتها، بشكل منتظم انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وسعت الهوة بين جنوب يستأثر بالسلطة والثروة، وبين شمال يترك على هامش التنمية، ويرسل إليه الجيش كلما طالب أبناؤه ببعض حقوقهم!
لعل الدولة المالية مطالبة اليوم بتغيير طريقة معاملتها لأبناء شعبها في الشمال. فقد كانت قادرة، في حالات التمرد السالفة على مواجهة الحركة التحررية الأزوادية بالجيش المالي، الذي كان يرتكب مجازره دون شهود. أما اليوم فقد تعرض الجيش المالي لهزيمة مذلة على يد مجموعات قليلة العدد والعدة سيئة التنظيم، جعلته يستنجد بالمجتمع الدولي لاستعادة السيطرة على المناطق التي فقدها دون أن يخوض معارك حقيقية في الغالب، وهذا الحضور الدولي يفرض عليه الاعتراف بواقع عجزه، وعدم قدرته على معاملة مواطنيه بالوحشية التي تعود عليها لأن الشهود الدوليين سينقلون الحقيقة المشينة للعالم، وهو ما حدث بالفعل.
صحيح أنه ينبغي دحر الإرهاب، وتحرير العالم منه. لكن الحرب المشروعة على الإرهاب لا ينبغي أن تتخذ ذريعة لإفراغ شمال مالي من سكانه الأصليين، ونهب ممتلكاتهم، وتجاهل، للمرة الألف، المطالب المشروعة لحركة تحرير أزواد، خاصة بعد تخليها عن المطالبة باستقلال الإقليم، وقطع كل صلاتها المزعومة مع الحركات الإرهابية.
ينبغي التذكير، في هذا السياق، بمسؤولية الحكومة المالية إلى حد كبير، والمجموعة الدولية، عن تنامي ظاهرة الإرهاب في شمال مالي. فقد تركت الحكومة المالية المنطقة، التي حرمتها من التنمية، وهمشت أهلها، ملجأ آمنا للجماعات المتطرفة تبسط عليها سيطرتها التامة، وتدير منها عمليات خطف الأجانب، ونشاطات التهريب بكل أنواعها. ولم تفلح تحذيرات بعض جيران مالي الذين اكتووا بظاهرة الإرهاب، وقرروا مواجهتها بحزم، في جعل الحكومة المالية، والمجتمع الدولي يتحركان بجدية وحزم ضد الإرهابيين، وإنما ظلت الحكومة المالية تتعلل بقلة إمكانياتها، و استمر المجتمع الدولي في تجاهل الخطر، حتى سيطر الإرهابيون على شمال مالي، وبدؤوا زحفهم إلى الجنوب، مهددين بذلك السلم في المنطقة.
لقد تم دحر الإرهابيين إلى خطوطهم الخلفية، وحررت المدن تباعا، لكن العمل الصعب ما زال ينتظر العسكريين والسياسيين على حد سواء؛ فعلى العسكريين ملاحقة الإرهابيين في أوكارهم التي خبروا مسالكها، وأجادوا التحصن فيها، وهي مهمة في غاية الصعوبة بالنسبة لجيوش غريبة على المنطقة، بما فيها الجيش المالي الذي لم يتجرأ يوما على ملاحقة المتمردين الطوارق في مغارات وكهوف جبال الهوغار!
أما واجب السياسيين فيتمثل في إيجاد حل عادل، ودائم لمطالب سكان الإقليم في التنمية، والمشاركة السياسية التي حرموا منها منذ استقلال الدولة المالية حتى يوم الناس هذا! فلم يعد الأزواديون مستعدين لأن يداروا من قبل الحكومة المركزية لصالح المناطق الجنوبية، وإنما يطالبون بإدارة شؤونهم، ورعاية مصالحهم بأنفسهم، في ظل حديث متزايد عن وجود ثروات طبيعية هائلة في المنطقة، قد لا تكون بعيدة عن الصراع الدولي حولها.
خلاصة القول أن أزمة الشمال المالي ما تزال بعيدة عن الحل، رغم الإنجازات العسكرية، وإنما هي مرشحة لتعقيدات أكثر في ظل ما اقترفه الجيش المالي من انتهاكات لحقوق الإنسان ضد مواطنيه، وبعض أبناء البلدان المجاورة الذين تربطهم بشمال مالي علاقات تاريخية، وامتدادات قبلية، ومصالح اقتصادية، لا يمكن لجيوش مهزومة، وسياسيين يبحثون عن الشرعية، تجاهلها أو القفز عليها...
محمد ولد عبد الرحمن